تذهب الترجيحات إلى حضور الملف الكردي في القمّة التي ستجمع الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى نظيره التركيّ أردوغان خلال قمّة الناتو في الرابع عشر من الشهر الجاري ببروكسل، ذلك أن اختبار سياسة بايدن التي ركّزت على دور الولايات المتحدة الطليعي في حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان لن تجد صداها في الشرق الأوسط قبل ثني تركيا عن الدور “غير المتحضّر” وكثير من الشغب في المنطقة، ولعل موضوعة الكرد تشكّل أبرز وجوه الاختبار لنهج بايدن كما تعتبر اختباراً أوّلياً لقدرات تركيا أردوغان على التكيّف مع المطالبات الأميركية الرامية إلى تقوية حليفتها التركية عبر انتهاج الأخيرة سياسات رشيدة وأقل عدائية وأكثر انفتاحاً في الداخل ومع الجوار.
قد تتسع القمّة لمناقشة طائفة من المشكلات التي افتعلتها تركيا في المحيط الإقليمي، لكن التركيز على الأوضاع السياسية والاقتصادية التركية المتردية سيساهم في انتشال حكومة أنقرة من مستنقع السلطوية والاستغراق في إرهاق القوى والتيارات والشخصيات المعارضة، والطريق إلى ذلك قرين بالتوقّف عن المحاكمات العبثيّة والكيديّة بحق المناضلين الكرد لا سيّما قيادات ورفاق حزب الشعوب الديمقراطي المعارض، وقادة الرأي في كما في حالة محاكمة رجل الأعمال عثمان كافالا ورفاقه على خلفيّة التحشيد للتظاهر في أحداث متنزّه غيزي عام 2013 والذي ألصقت به تهمة التورّط في الانقلاب الفاشل عام 2016 والتي غدت المقصلة الرسمية للشخصيات والقوى الاعتراضيّة على مشروع التحالف الحاكم.
يحضر الموضوع الكردي بوصفه ماسّاً بالسلام الداخلي التركي، وهي مشكلة متصلة بما ينوف عن 20% من المجتمع التركي، ذلك أن الحكومة التي تنصّلت من وعود السلام ودخلت في عملية انتقام واسعة على خلفيّة تحوّل الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد إلى ما اصطلح على تسميته “صانع الملوك” على خلفية دور الحزب في إلحاق الهزيمة بالحزب الحاكم في كبريات البلديات التركية لا سيما إستنبول خلال انتخابات عام 2019. كما أنّ سياسة احتواء المسألة الكردية التي ارتبطت بالقمع العاري والمحاكمات الماراثونية للقيادات والمحازبين شجّعت الحكومة التركية على خوض حرب خارج أراضيها وإقامة مناطق عسكرية داخل أراضي إقليم كردستان العراق، وشن الهجمات التي تستهدف المدنيين، ما زاد من تنامي مشاعر الغضب لدى الكرد، فضلاً عن إرباك الإقليم وضرب استقراره الأمر الذي ينسحب على حضور الولايات المتحدة في العراق، حيث يشكّل الإقليم أكثر المناطق الداعمة للتواجد الأميركي وأشد حلفائه وضوحاً وقاعدة إسناده المتقدّمة في مسار محاربة الإرهاب. وفيما هدّدت إدارة ترامب بتدمير اقتصاد تركيا حال توسّع تركيا في عملياتها العسكرية داخل مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، فإنّ هذا التهديد الذي بدا تلويحاً صارماً وقتذاك رسم خطوطاً محددة للتدخل التركي وأوقف التصعيد العسكري الذي أضرّ بتواجد واشنطن في الكثير من مناطق شمال وشرق سوريا وأفضى إلى حضور موسكو في المنطقة.
ووفقاً لخطوط المصالح الأميركية المتصلة بالسلام الداخلي التركي، وتلك المتصلة بالسلام الكردي التركي، فإنّ تدعيم الديمقراطية المتهاوية في تركيا يمرّ بتضاعيف المسألة الكردية، داخل وخارج تركيا، وهذا ما بات راسخاً في خُطب مسؤولي الإدارة الأمريكية ومعلّقين سياسيين وكتاب أميركيين ممن يريدون الاستقرار لتركيا والإبقاء عليها دولة قويّة وبراغماتية تنزاح للبرامج التنموية والديمقراطية بدل الخطابات الشعبوية والتحريضة والحاضّة على القمع السياسي والحرب والتدخّل العسكري في الجوار.
كثيرة هي المسائل التي من المتوقع أن تدور حولها نقاشات الرئيسين، فعلاوةً على المسائل المرتبطة بالواقع السياسي والاقتصادي التركي الداخلي، يبدو صندوق شكاوى واشنطن ممتلئاً بالرسائل الشاكية التدخّلات التركية الفظّة في شؤونها وحدودها وسيادتها ومصالحها. بعض تلك الرسائل تخص أرمينيا واليونان وأخرى تمس مصالح دول خليجية والعراق وليبيا ومصر، كما أن الوضع السوري بحاجة إلى تقييم مختلف إذ ثمة شكاوي متصلة بالأداء التركي المتفرد بعيداً عن بيت الناتو والتحالف الدولي، وتحضر إلى ذلك مسألة “معاداة السامية” التي حامت شبهتها حول الرئيس التركي الذي أجج الحرب بين الإسرائيليين والفلسطينيين على عكس ما سعت إليه جهود التهدئة الدولية، وتبقى العقبة الأهم: موضوع صواريخ إس 400 الذي يزداد تعقيداً ويحرج متنفّذي الإدارة الأميركية ممن يدعون إلى علاقة مستقرة وداعمة للحكومة التركية بمعزل عن حالتي حقوق الإنسان والديمقراطية.
ومن بين المسائل التي قد تطرح على طاولة البحث والمداولة في شكلٍ أفصح يبرز ملف كرد تركيا وجوارها، غير أن الإجابة التركية على طلب ومساعي الولايات المتحدة ستبقى مقتصرة على عبارات رتيبة لطالما كرّرها الرئيس التركي وفريقه الحاكم من قماشة الأقوال المتذرّعة بأن الأمن القومي التركي ومصالح تركيا و”إرهاب” العمال الكردستاني. ويزيد من توقّع إجابة تركيّة بهذا القدر من الدوغمائية طبيعة التحالف الحاكم العدائية وسعي الحكومة التركية إلى المضي في حروب متواصلة إن إلهاءً للرأي العام واختراعاً لانتصارات واهية، أو تعمية على فضائح بدأت تطال مسؤولي الدولة، وإخفاقات الحكومة المتواصلة في حقول الاقتصاد والديمقراطية والحريات والعلاقات الدولية.
ليس أمام بايدن إلّا أن يقول، وليس أمام أردوغان إلّا أن لا يسمع!