اقتصاد الظل في سوريا قبل عام 2011

إن تمويل الاستثمار يعتمد بالدرجة الأولى على الموارد المحلية الحكومية والخاصة،  ويعتمد بالدرجة الثانية على الموارد الخارجية. وبغض النظر عن مصدر التمويل الاستثماري، فإنه يواجه في الاقتصاد السوري مرضاً خطيراً ومزمناً يدعى باقتصاد الظل الذي يشمل جميع الأنشطة الاقتصادية غير القانونية. بهذا المعنى فإن اقتصاد الظل يشمل نشاطات اقتصادية متنوعة مثل التهريب، والتهرب الضريبي، والهدر وغيرها كثير.

خلال مناقشة “بحث المناخ الاستثماري في سوريا” الذي تقدمت به إلى مشروع “استشراف مسارات التنمية في  سوريا حتى عام 2025” بإدارة الصديق جمال باروت، وتمويل صندوق الأمم المتحدة للتنمية، وبحضور نحو سبعين شخصية أكاديمية ومسؤولين حكوميين، بينت بالأرقام حجم الهدر والنهب في الاقتصاد الوطني.

بحسب المصادر الرسمية فقد تسبب الهدر في الكيان الاقتصادي السوري في ضياع نحو 40% من حجم الناتج الإجمالي في عام 2002، الذي كان يعادل نحو 21.9 مليار دولار في ذلك الوقت (سعر الدولار 45 ليرة سورية). هذا يعني إنه من باب ضبط الهدر وحده كان يمكن تأمين موارد مالية تكفي لاختصار المدة المستهدفة في الخطة الخماسية العاشرة إلى النصف تقريباً.

وإن القطاع الخاص الذي تشكل أنشطته الاقتصادية نحو 60% من مجمل النشاطات الاقتصادية في البلد لا يساهم سوى بنحو 15% من مجمل تحصيلات الدولة من ضرائب الدخل. إن مبالغ التهرب الضريبي لا تقل عن 50 مليار ليرة سورية سنوياً، وهي تشمل أبواباً للتكليف شديدة الاختلاف والتنوع. منها مثلاً عدم توثيق الوكالات الأجنبية، التي تستورد ما قيمته نحو 185 مليار ليرة سورية سنوياً، وإذا أخذ بالحسبان، العمولة التي تصل إلى 4%، وبحسبة بسيطة، يتبين أن خزينة الدولة تضيع عليها أكثر من ستة مليارات ليرة سورية من هذا البند لوحده. يضاف إلى ذلك، تلاعب التجار، في فواتير الاستيراد، إذ يتم تخفيضها بنسبة تتراوح بين 20 و30 % عن أسعارها الحقيقية، في حين يتم رفع أسعار البيع الحقيقية بنحو 10-30%، أي ما يعادل نحو 30-60% من أسعار الفواتير وهذا يضيع على خزينة الدولة مبالغ كبيرة.

تشير تقارير البنك الدولي إلى إن اقتصاد الظل في سوريا يتسبب في ضياع نحو 20-40 % من الناتج المحلي غير المضاف عبر قنوات التهريب والرشاوى والكمسيونات من أجل الحصول على عطاءات أو مناقصات أو البيع بالتراضي لمؤسسات الدولة.

وتخسر سوريا سنوياً نحو مليارين من الليرات السورية نتيجة الأجور المنخفضة التي كانت تتقاضاها العمالة السورية في لبنان. يضاف إليها الخسارة الناجمة عن الخلل في الموازين التجارية بين البلدين. ففي حين ازدادت الصادرات السورية إلى لبنان، بمقدار الضعفين خلال الفترة 2000-2003، ازدادت صادرات لبنان إلى سوريا بنحو 11 ضعفاً. ولا يخفى حجم الاستفادة الكبيرة التي جناها لبنان من الأموال السورية المهاجرة إليه نتيجة لضعف وتخلف الائتمان المصرفي في سوريا. باختصار، يعد اقتصاد الظل في سوريا نشيطاً جداً ويمكنه أن يؤمن نحو 11 مليار دولار دخلاً لخزينة الدولة في حال تم اخضاعه للقانون، وهو مبلغ يزيد عن جم المبالغ المقدرة للاستثمار سنوياً من أجل مضاعفة الناتج المحلي في عام 2020  كهدف  من أهداف الخطة الخماسية العاشرة.

الإثراء بوسائل غير قانونية حالة معروفة في جميع البلدان في الظروف العادية بدرجات مختلفة، يعمل من أجله عادة ضعاف النفوس من أصحاب السلطة والنفوذ عن طريق الرشاوى والعمولات لـ” تيسير” الأعمال، أو لتجاوز القانون، بالتحايل عليه، أو تعطيله. هذه الحالة كانت منتشرة في سوريا قبل انتفاضة السوريين ضد نظام الحكم في بلدهم في آذار/ مارس من عام 2011، جراء الطبيعة الفاسدة للنظام، وكانت من الأسباب الرئيسة لانتفاضتهم.

لقد كان من نتيجة النهج المعتمد على سياسة الإدارة بالفساد، إنعاش الغرائز اللصوصية في أجهزة الدولة، والمجتمع، والاقتصاد، بحيث صارت السرقة والرشوة من الوسائل الأساسية في الإدارة، والضبط المجتمعي. لقد أدت هذه السياسة إلى تشكيل تحالف ذي  طابع طغموي أمني بين شرائح البرجوازية البيروقراطية، والكمبرادورية، والطفيلية، والأجهزة الأمنية، لتكوين سلطة سياسية شديدة المحافظة.

ومن جهة ثانية، أدت هذه السياسة إلى انهيار شبه كامل لمنظومة القيم الحميدة في المجتمع، لتحل محلها منظومة قيم جديدة فاسدة، تعلي من شأن الفاسد، والسارق، والمهرب “برافو قد حالو”، وعملت تحتها مجموعات استزلامية باسم “الشبيحة”، وقد صار لكل متنفذ شبيحته يستخدمها في تأمين مصالحه، وفي الدفاع عنها. وأكثر من ذلك استخدمت الشبيحة في صيغ مختلفة (كتائب عمالية مسلحة، أو كتائب بعثية مسلحة، أو لجان شعبية …واخيرا شركات أمنية) لترهيب الناس، والدفاع عن النظام في الأزمات، وهذا ما تم اختباره بنجاح في الأزمة الراهنة. في المقالة القادمة سوف نلقي الضوء على النتائج الاقتصادية للصراع في سوريا وعليها.