ينظر في العالم العربي والمشرقي للعلمانية على أنها قضية الأقليات الفكرية والدينية والثقافية، ويجد كل من يرى أن حكم فئة لغيرها دون ضمانات فيه مخاطر ظلم عليه وعلى بقاء هويته الثقافية ضالته فيها. ومن الطرف الآخر ينظر المسلمون بريب لفكرة العلمانية وهذا حتماً يستحق بحثاً عميقاً، ولكن ربما ما يزيد الطين بلة هنا هو مواقف بعض العلمانيين المعادية إما للأديان وإما للدين الإسلامي وللمسلمين بشكل خاص. ما يربط العلمانية بعكس مقصدها ويضفي على الأمر صفة العنصرية تجاه المسلمين.
في واقع اليوم هذا هو المناخ العام الذي إن دل على شيء إنما يدل على أننا نعيش جميعاً وفي كل مكان أزمة قيم وأخلاق وفي الوقت ذاته أزمة ثقة بين المعسكر الديني والمعسكر العلماني .
ومن الناحية النظرية تبدو الأمور واضحة عندما نقول أن العلمانية تعني فقط أن الدولة تقف محايدة تجاه معتقدات الجميع وأن الدولة لا دين لها ولكنها تضمن في الوقت ذاته حرية المعتقد للجميع. عملياً الواقع مختلف, إذ تأخذ العلمانية على أرض الواقع أشكالاً وممارسات مختلفة من دولة لأخرى في مجموعة الدول التي تعتبر علمانية.
العلمانية في أوروبا أتت نتيجة مراحل تطور للعلاقات بين الطوائف الدينية والمذهبية والمكونات المتعايشة بجانب بعضها البعض. ومرت الشعوب في تلك الدول بمراحل تطور عديدة قبل الوصول للعلمانية، وُقعت خلالها مواثيق تاريخية كرست تدريجياً العلاقات بين الطوائف. ورغم وصول الدول المتحضرة لمنهج علماني إلا أننا لو تمعنّا في علمانية كل دولة على حدة، نلاحظ تباينات ورؤى مختلفة لمفهوم العلمانية لدى كل شعب وكل ثقافة.
في سويسرا الفيدرالية على سبيل المثال، الدستور الوطني يبدأ بجملة “باسم الله العظيم” وكذلك النشيد الوطني السويسري يشير بوضوح للدين المسيحي، ولكن عملياً هذا لا ينفي قط علمانية الدولة بممارساتها وحياديتها, وما يسهل الأمر انتهاج اللامركزية، حيث الكانتونات تترك هامشاً كبيراً من الحريات للمواطنين، ومن ناحية جوهرية تضمن الدولة والدستور حق كل فرد بالمعتقد والإلحاد ولا يسمح لأحد بأن يرغم غيره على شيء. هناك ضوابط حقيقية سمحت بتواجد هذا المناخ السويسري المسالم.
التناقضات العميقة بمفهوم العلمانية نجدها أكثر حين نقارن ما بين الثقافة اللاتينية والأنجلوساكسونية وهذا يعود للتاريخ الفكري لكل من الدول المنتمية لهاتين الثقافتين, وإن أجرينا مقارنة بسيطة بين العلمانية الأميركية والعلمانية الفرنسية سنرى فوارق عميقة ربما تساعدنا على أن نعي مدى تأثير الاستعمار الفرنسي على النخب في العالم العربي.
المفهوم الفرنسي للعلمانية يتخذ عموماً موقفاً معادياً للأديان بصرامة وريب, ولهذا الأمر أسباب تاريخية تعود لعلاقة الدولة الفرنسية بالكنيسة, وتعود أيضاً لتاريخ تأسيس الدولة الفرنسية التي وحدت بالحروب دويلات وشعوب ذات لغات وثقافات مختلفة كالبروتون والأوكسيتان وغيرهم .في فرنسا هناك أيضاً قضايا أحدثت ثورة فكرية تستحق البحث كقضية دريفوس التي تشير للعنصرية التي كان يعيشها يهود فرنسا والبروتستانت حينها. وبالمختصر مرت فرنسا بمراحل عديدة أدت لما نحن فيه اليوم من تناقضات, هناك اليوم أزمة حقيقة بالمفاهيم والتعاطي مع الآخر تتفاقم مع ارتفاع نسبة المواطنين المسلمين الفرنسيين. وإن كانت الأزمة الجديدة هي ما بين الدولة الفرنسية والدين الإسلامي فهي تحتاج للبت بها بأسرع وقت، لأنها حالياً تتسبب بحالة تشنج وردود أفعال لا منطقية من الطرفين.
وبالمقارنة مع التجربة الأميركية أو حتى الإنجليزية، نجد أن العلمانية الأنجلوساكسونية تُمارس بطريقة مختلفة تماماً. العلمانية الأميركية واضحة فالبند الأول من الدستور الأميركي يفصل جدياً بين الدولة والكنيسة ويؤكد ضمان الدولة لحرية المعتقد أو عدمه. كما أنه في كل الدستور لا توجد كلمة واحدة تشير لله, وشعار الولايات المتحدة هو الوحدة الوطنية إذ يقول “god bless America” وتعني الله يحمي أميركا ولا نجد إشارة هنا لدين أو لإله دون الآخر.
ويقسم الرؤساء الأميركيون على الكتاب الذين يرونه مناسباً لهم وإن كانت قد جرت العادة منذ عهد الرئيس جورج واشنطن أن يتم القسم على الإنجيل فهذا ليس حصري، لقد أقسم جون كوينسي آدامز على كتاب قانون روزفلت ولم يقسم على أي كتاب آخر.
وبالتالي يعيش الأميركي بتصالح أكبر من الفرنسي مع القيم العلمانية التي تضمن المساواة وحرية الهوية الثقافية وحق الاختلاف لكل مواطن. ويعود هذا لسياسات اجتماعية جادة دفعت نحو التعايش الثقافي بشكل أكبر ودخلت بعمق ضمن قيم الثقافة الأميركية وتم هذا منذ القرن التاسع عشر بفضل أبحاث وأعمال سوسيولوجية حول الثقافات والهجرة والتعددية وأهمها مساهمات مدرسة شيكاغو التحديثية حول التجديد السوسيولوجي.
بالتالي نرى اليوم بوضوح كيف أن العقلية الأنجلوساكسونية لديها أدوات متطورة للتعامل مع التعددية بشكل أكبر من فرنسا ومن دول أخرى، وهنا يكمن الفارق النوعي بين الرؤية الأميركية والرؤية الفرنسية للعلمانية والتعددية.
ولكن رغم هذا الاستنتاج, يعول في فرنسا على المناخ الفكري العام الذي سيسمح حتماً بتطوير المفاهيم العامة بعكس دول المشرق التي رغم تعدد الأديان والثقافات فيها إلا أن المناخ الفكري العام لا يفسح مجالاً لتطوير المفاهيم بسهولة. وبالتالي نستطيع أن نقول إن العلمانية في العالم العربي حالياً لا تطرح بشكل صحي وموضوعي. فهي تطرح على أنها معسكران الأول لصنف من الملحدين يعادون الآخر ولا يحترمون أبسط القيم الأخلاقية وأما الثاني فهو لديننين ينظرون للدين كضمان أخلاقي كما كان ينظر له في القرن التاسع عشر في أوروبا، أي أنه الضمان الوحيد لبناء مجتمع فيه حد أدنى من الأخلاق والقيم. .
لكي نكون موضوعيين لا بد أن نأخذ أسباب معاداة العلمانية مأخذ الجد, ونتساءل ما إن كان هناك ثمة أزمة أخلاق وقيم تعيشها مجتمعاتنا تدفعهم لهذا التشنج؟ ومن ثم نتساءل بعدها كيف يمكن أن نشرح لدعاة الدولة الدينية اللاعلمانية أن القيم والأخلاق ليست حكراً على المؤمنين أو المتدينين، وأن المصلحة العليا لربما تقتضي أن يتعاون علمانيون ومتدينون لإيجاد حلول للأزمات الأخلاقية التي تعيشها مجتمعاتنا.
لكن في العمق الأزمة الأهم هي أزمة الثقة بين المعسكرين العلماني والديني حالياً. ولا بد أن نتساءل كيف نبني هذه الثقة الغائبة بين الطرفين لكي نخوض حواراً بنّاءً يُمكّننا من الارتقاء نحو مجتمع يملك قيماً وأخلاقاً متفقاً عليها إنسانياً وعالمياً ودينياً في الوقت ذاته, يسمح بهامش حريات للفرد ويقبل بأكثر حتى من التعددية.
لكن إن كان تاريخ العلمانية في الغرب يظهر أن المرحلة التي تسبق القبول بالعلمانية هو القبول بالتعددية الدينية وأننا لا نستطيع حرق المراحل ببساطة، فهل يا ترى مجتمعاتنا وصلت حقاً لمرحلة القبول بالتعددية الدينية ؟ ..نحن ربما لم نصل بعد لمستوى الميثاق الوطني التعددي.