مصر في الإقليم

عنت اتفاقيات كامب دافيد (17 أيلول/سبتمبر 1978) استقالة مصر من شؤون آسيا العربية، حيث كان الملك فاروق والرئيس جمال عبدالناصر في حالة انشغال كبير بتلك الشؤون، بل إن عبدالناصر كان مدركاً منذ أوائل وصول الضباط للسلطة المصرية، أن التاريخ يدل على أن الدفاع عن مصر شمالاً يبدأ من بلاد الشام. وعندما انفجرت أزمة جنوب السودان 1983 وأزمة لوكربي بين القذافي والغرب الأميركي-الأوروبي عام 1992 كان الدور المصري غائباً في تلك الأزمتين، وهو ما عنى أن مفاعيل كامب دافيد هي أبعد من استقالة مصرية من شؤون آسيا العربية.

هنا، كان حسني مبارك تجسيداً  لهذا المسار المصري، وعندما اضطربت أرض الكنانة داخلياً بعد سقوطه (11 شباط/فبراير2011) حتى استعادة العسكر السلطة بعد إسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين (3 تموز/يوليو 2013)، وجاء انخراط القاهرة في الأزمة الليبية (2011-2021) متأخراً عن دول مثل السعودية والإمارات وقطر وفرنسا وإيطاليا، كما أن انخراطها في أزمات السودان (دارفور- شرق السودان) كان ضعيفاً.

هنا، كان ملفتاً عودة مصر عبدالفتاح السيسي للاهتمام بشؤون آسيا العربية على ضوء فراغ القوة العربية هناك الذي تجسد من خلال أزمتي سوريا (2011-2021) واليمن (2014-2021) وبروز الدور التركي في الأزمة السورية وبروز الدور الإيراني في الأزمتين السورية واليمنية، حيث دخلت مصر ولو بأدوار ضعيفة في الأزمتين بسبب القلق من تنامي نفوذ أنقرة وطهران، وخاصة الأولى بعدما أحس العسكر الحاكمون في القاهرة أن رعاية أردوغان للإسلاميين المصريين تمثل تهديداً وجودياً لحكمهم، وفي هذا الصدد كان ملفتاً الانخراط المصري الكثيف في الأزمة الليبية عقب توقيع فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي الليبي، اتفاقية الحدود البحرية مع تركيا واتفاقيات أمنية سمحت بغطاء داخلي للتواجد العسكري التركي في ليبيا (تشرين الثاني/نوفمبر2019)، وقد كان الدعم التركي، العسكري المباشر أو عبر المرتزقة، قد سمح لقوات الغرب الليبي الذي يسيطر عليه الإسلاميون، بدحر قوات اللواء خليفة حفتر المدعومة من مصر والسعودية والإمارات وفرنسا وروسيا، والتي انكفأت وانسحبت من أبواب العاصمة طرابلس الغرب إلى خط سرت- الجفرة في أواخر شهر أيار/مايو2020، وعندما أعلن الرئيس المصري السيسي في أواخر الشهر التالي بأن خط سرت-الجفرة هو “خط أحمر يؤدي تجاوزه إلى تدخل عسكري مصري مباشر” فإن شبح الحرب المصرية- التركية على الأرض الليبية قد دفع واشنطن في الفترة ما بين أيلول/سبتمبر2020 وشباط/فبراير2021 إلى إطفاء محركات الأزمة الليبية، وخاصة بعدما لمست واشنطن أن الأزمة الليبية هي ممر لموسكو إلى شمال أفريقيا وظهور حلفاء واشنطن في القاهرة والرياض وأبوظبي وباريس.

وفي هذا الصدد، أيضاً، كان انفجار أزمة سد النهضة مع إثيوبيا، منذ شهر شباط/فبراير2020 بعد فشل محادثات ثلاثية شملت السودان لحل تلك الأزمة حاولتها إدارة دونالد ترامب قبيل بدء الملء الأول لجسم السد المقرر في صيف 2020 مع الأمطار الموسمية، دافعاً لمصر لتشكيل تحالف بين القاهرة والخرطوم ضد آديس أبابا وصل إلى حدود اتفاقيات عسكرية ثنائية  ومناورات عسكرية مشتركة، ولكنه لم يصل إلى انخراط مصري في الاتفاقيات التي عقدتها السلطة السودانية مع حركات عسكرية معارضة في دارفور وجبال النوبة، فيما كان دور دولة جنوب السودان بارزاً في الوصول إلى تلك الاتفاقيات.

وبالتزامن مع هذا، هناك بداية اهتمام مصري جديد وغير مسبوق بالأزمة السورية في عام2021، وإن كان يلمس منه أن الدافع الرئيسي له هو مواجهة التمدد التركي في سوريا، فيما تبقى السعودية والإمارات أكثر فعالية في الأزمة اليمنية من مصر، كما يلاحظ في هذا الصدد بأن الأزمة الليبية كانت ممراً لتقارب مصري- روسي لم نشهد مثيلاً له في الحقبة التي أعقبت انتقال أنور السادات عام 1974 من الحلف الذي نسجه عبد الناصر مع الاتحاد السوفياتي إلى ارتماء مصري في حضن واشنطن، كان يظن الرئيس المصري السادات أو يتوهم بأنه سيدفع واشنطن لاستبدال اعتمادها على إسرائيل كوكيل رئيس للولايات المتحدة في المنطقة كما بينت حروب1967 و1982 وضرب المفاعل النووي العراقي عام1981.

كتكثيف: لم تستعد مصر إلا جزءاً قليلاً من دورها الإقليمي الذي كان يمتد ليس فقط للتأثير في اللوحة الإقليمية، بل  للتأثير في الدواخل المحلية للبلدان في دمشق وبغداد وعمَان وصنعاء وعدن والخرطوم وطرابلس الغرب، ويبدو أن إحساس دوائر صنع القرار بأخطار تهدد الأمن القومي المصري في الصميم، عبر الأزمة الليبية أو عبر أزمة سد النهضة أو عبر التمددات التركية في سوريا، هي التي تدفع إلى استيقاظ، ولو محدود القوة حتى الآن، للدور المصري في إقليم الشرق الأوسط.