مهن يدوية عريقة في حلب تشارف على الاندثار

حلب – نورث برس

في سوق باب الحديد في مدينة حلب، شمالي سوريا، يشير محمد صالح الفتال (50 عاماً)، وهو صاحب ورشة لصناعة الأدوات الحديدية، إلى محله الصغير وورشته التي يعود تاريخها لأكثر من 200 عام.

توارث “الفتال” صناعة الأدوات الزراعية في العائلة أباً عن جد، لكن الحرب والدمار الذي لحق بسوق باب الحديد بسبب المعارك بين القوات الحكومية والمعارضة المسلحة نهاية العام 2012 دفعته لإغلاق ورشته ومغادرة السوق.

 يقول إنه كان متفائلاً أواخر العام الماضي حين أعاد افتتاح ورشته.

“صحيح أن المعدات سُرقت وأصاب الدمار جوانب في المحل، لكنني قمت بشراء بعض الأدوات وصنعت بنفسي بعضها الآخر.”

لكن عمله لم يعد مثمراً مع هجرة سكان الأرياف وتراجع الاهتمام بالزراعة، “فكميات البيع قليلة قياساً بما قبل الحرب.”

وكانت مدينة حلب تعرف بالعاصمة الاقتصادية لسوريا، وفي العام 1986 ضمت اليونسكو حلب القديمة لمواقع التراث العالمي.

وخلال عقد من الحرب في سوريا، تضررت حلب اقتصادياً بفعل القتال والقصف ونقل المعامل إلى تركيا، وتوقفت عجلة الاقتصاد في المدينة وتعرض كثير من أسواقها القديمة للتدمير والحرق والنهب.

آخر حرفي في أسرتي

وفي ورشته، يقوم “الفتال” بتصنيع مناجل حصاد وسلاسل حديدية ومستلزمات للأحصنة وتربية الدواب وأدوات أخرى زراعية وريفية.

لكن ارتفاع أسعار المواد الأولية مثل الحديد الخام والفحم الحجري المستخدم في إذابته وحتى الأوكسجين الخاص باللحام، جعل أسعار المنتجات تتضاعف لـ400 بالمئة مقارنة مع عمله قبل الحرب.

“منجل الكساحة الذي كان ثمنه 1500 ليرة بات يكلفنا أكثر من 20 ألف ليرة سورية.”

ورغم أن صناعة الحديد اليدوية تراث حلبي أصيل وذات أهمية اقتصادية، لكن عدد الورشات حالياً لا يتجاوز سبع ورشات.

وعقدت عدة اجتماعات حكومية للحرفيين والصناعيين في حلب، وكان تزويد المناطق الصناعية والأسواق بالكهرباء وتوفير المواد الأولية من أبرز المطالبات ليتمكنوا من عملية الإنتاج والمنافسة.

يقول “الفتال” إن الحكومة لم تقم حتى بتأمين المواد الأولية بأسعار مناسبة ولا أوصلت الكهرباء للسوق.

ويضيف: “يبدو أنني سأكون آخر فرد من أسرتي يعمل في هذه الورشة.”

إرث حضاري وإنساني

ويرى منصور قباني (60 عاماً)، وهو مدرس متقاعد من سكان حي الأصيلة في حلب القديمة، إن المدينة لم تغيرها الحرب فقط بل غيرها أيضاً الإهمال والسياسات الحكومية.

فالحكومة لا تبدي أي اهتمام بتنشيط الصناعات اليدوية ودعمها، وحتى الآن لم يتم صيانة الورش ولا إعادة الخدمات للأسواق التراثية القديمة، كما لا يوجد برنامج لدعم الحرفيين وتحفيزهم للعودة لمهنهم”، على حد قول “قباني”.

وتستمد أسر حلبية أصيلة أسماءها من الحرف والمهن التراثية التي كانت تعمل بها مثل “عجان الحديد والخرقي والدهان والصباغ والفتال وغيرها.”

وفي أسواق حلب القديمة، تجد مهناً عريقة مثل النجارة العربية وصناعة الزجاج المعشق والموزاييك وصناعة وتشكيل الحديد يدوياً.

ويستذكر “قباني”: “قبل الحرب كنت تجول على هذه الأسواق وترى فيها الأبناء يتعلمون من الآباء أسرار العمل ومهاراته، لكن للأسف ضاع كثير من الصناعات اليدوية ومنها ما شارف على الانتهاء.”

ويضيف: “حلب بحاجة لإعادة إحياء تراثها وصناعتها لأنها إرث حضاري لا يخص أهلها فحسب، بل هو إرث إنساني.”

“لن يستطيع السوق النهوض”

ويصف أحمد الصباغ (62 عاماً)، وهو صاحب ورشة لتصنيع النحاسيات، سوق النحاسين في حلب بالخرابة بسبب الدمار الكبير الذي طاله في سنوات الحرب وغياب الدعم الحكومي بعد انتهاء الاشتباكات مع سيطرة القوات الحكومية على كامل أحياء المدينة.

ويعتقد كثير ممن عاودوا افتتاح محالهم في السوق الواقعة في حلب القديمة شمال شرقي قلعتها أن مهنة دق النحاس وتزيينه شارفت على الاندثار في المدينة التي ذاع صيت صناعاتها طوال عصور سابقة.

وقال “الصباغ” إن هذا السوق كان من أشهر الأسواق وأجملها في حلب، “لكن المحال مفتوحة الآن للدعاية ولإظهار عودة المهن التراثية لحلب.”

وأضاف لنورث برس: “بالرغم من الوعود الحكومية بإعادة مهنة دق النحاس يدوياً إلا أن عدداً محدوداً من أصحاب المهنة رجعوا للسوق، فهذه الصناعة لم تعد مهنة تدر أرباحا للعاملين فيها.”

ويعيد صناعيو سوق النحاسين تدهور عملهم إلى ارتفاع أسعار المواد الأولية، لا سيما النحاس الخام، وعدم وجود سياح يشترون القطع النحاسية المزخرفة كما كان الحال سابقاً.

وذكر “الصباغ” أن السكان المحليين لا يرغبون في شراء أدواتهم بسبب أسعارها الباهظة مقارنة مع أوضاعهم المعيشية المتدهورة، “فالعائلات تفضل أدوات الطبخ والأواني المصنوعة من الألمينوم المستورد الأقل سعراً.”

يقول بحسرة: “سوق النحاس لن يستطيع النهوض من جديد، ستندثر الحرفة الضاربة في تاريخ حلب.”

إعداد: نجم الصالح – تحرير: حكيم أحمد