الأسباب الاقتصادية للأزمة السورية

بعد أن أعلن الروس وقف العمليات العسكرية الكبيرة في إدلب وإبرام تفاهمات مع تركيا بخصوص ذلك، على الضد من رغبة النظام السوري، بدأت مناطق سيطرة النظام تشهد أزمة اقتصادية غير مسبوقة، لم تحصل حتى خلال سنوات الصراع المسلح بين النظام ومسلحي المعارضة، تجلت في انهيار متسارع للقيمة الشرائية للعملة الوطنية، وارتفاع الأسعار، ما انعكس سلباً على مستوى حياة السوريين. وبانهيار قيمة العملة المحلية، وارتفاع أسعار صرف العملة الصعبة، أخذت الأزمة تمتد إلى جميع مناطق سوريا الخارجة عن سيطرة النظام.

ونظراً لتعقيدات المشهد السوري فمن المرجح أن تستمر الحياة الاقتصادية في سوريا بالتدهور مستقبلاً إذا لم يتم التوافق على حل سياسي لأزمتها المستمرة منذ نحو عشر سنوات. ويعلم الاختصاصيون أن الأزمات الاقتصادية لا تكون وليدة لحظتها، بل لها أسباب في السياسات الاقتصادية السابقة، ولها مساراتها الخاصة في الحياة الواقعية، والعلامات الدالة عليها. ومن اجل تفسير كل ذلك سوف نعمد في مجموعة من المقالات لإلقاء الضوء عليها، محاولين في النهاية استشراف السيناريوهات المحتملة لها في مستقبل الحياة الاقتصادية السورية.

يقوم الاقتصاد على فكرتين بسيطتين هما: فكرة الاستهلاك، وفكرة الإنتاج. فما دام الإنسان يستهلك فعليه أن ينتج ما يستهلك. من جهته يعبر الاستهلاك عن حاجات الناس المختلفة، في حين تعبر الطبيعة، بما فيها من موارد عن الإنتاج. في هذه المعادلة البسيطة يواجه الإنسان الطبيعة بكونه مركباً من حاجات مختلفة، في حين تقف الطبيعة قباله بكونها مصدراً لإشباع حاجاته.

وبين طرفي هذه المعادلة، أي بين الحاجات والطبيعة ثمة نشاط بشري لا يتوقف يقوم بتحويل ما في الطبيعة من مصادر إلى موارد ومن ثم إلى منتجات مختلفة تستخدم لإشباع الحاجات. في سياق هذه العملية التفاعلية الجدلية المتكررة باستمرار تصير الموارد عند حد معين، نادرة بالعلاقة مع تزايد السكان وكثرة حاجاتهم وتنوعها، فيدخل المجتمع في وضعية منذرة بالأزمة، وقد يدخل في مرحلة الأزمة، إذا لم يتم التنبه إلى ذلك، واتخاذ الإجراءات الضرورية لإعادة التوازن إلى العلاقة بين الحاجات والموارد الأمر الذي يمكن تحقيقه إما عن طريق تنمية الموارد، أو عن طريق ضغط الحاجات. يتطلب انتهاج الطريق الأول مزيداً من التنمية، وهي تتطلب بدورها مزيداً من الاستثمارات. أما انتهاج الطريق الثاني فيتطلب ترشيد الحاجات، وفي بعض الأحيان لا بد من شد الأحزمة، خصوصاً، عندما يكون الاقتصاد في وضعية الأزمة.

من حيث المبدأ، يمكن القول إن الطريق الأول اعترضته صعوبات كثيرة في سوريا جراء السياسات التنموية التي اتبعتها السلطة السورية على مدى أربعة عقود من السنين قبل عام 2011، بحيث صار من المتعذر إزالة هذه الصعوبات وإعادة التوازن والديناميكية للاقتصاد السوري. ولذلك لجأت الحكومات السورية المتعاقبة إلى الطريق الثاني، أي طريق ضغط الحاجات، فهو يبقى الطريق الأسهل بالنسبة للنظام السوري نظرا لطبيعته الاستبدادية. وعندما حاولت الحكومات في بداية عهد الرئيس بشار الأسد القيام ببعض الإصلاحات الاقتصادية، من أجل إبعاد الاقتصاد مؤقتاً عن حافة الانهيار تكشف لها بنية معقدة محكومة بآليات فساد شديدة التماسك حالت دون إجراء الإصلاحات الضرورية. ومن الواضح أن الأزمة التي تعصف بسوريا اليوم رغم أن عنوانها الأبرز هو مطالبة الشعب بحريته وكرامته، في تعبير مكثف عن غياب الحياة السياسية الطبيعية، إلا أن لها جذوراً خارج المجال السياسي تذهب عميقاً في الواقع الاقتصادي الذي كانت تعيشه سوريا. فانخفاض معدلات النمو، وزيادة البطالة، وانخفاض مؤشرات مستوى الحياة، وزيادة الفقر، وانتشار الفساد وغيرها، كلها عوامل رئيسة ساهمت في إنضاج الظروف الموضوعية لانتفاضة الشعب السوري الراهنة.

إن سؤال التنمية بمعناه الواسع وجميع الأسئلة الأخرى المتفرعة عنه، والمرتبطة به، ومنها السؤال المتعلق بالاستثمار والمناخ الاستثماري هي أسئلة سياسية بامتياز، لم يكن النظام السوري بحكم طبيعته قادراً على الإجابة عنها. فالتنمية الدائمة تحتاج، قبل كل شيء، إلى مناخ سياسي ملائم يقوم، من حيث الأساس، على الحرية والمسؤولية وسيادة القانون في إطار مؤسساتي مناسب. وهذا يتطلب بناء نظام في المصالح يتيح فرصاً لجميع طبقات وفئات المجتمع وفعالياته واستقصاء مصالحها بصورة شفافة وتنافسية في إطار القانون وحماية سلطته.

في السنوات الخمس الأولى من بداية حكم بشار الأسد، وتحت تأثير المتغيرات العالمية وضغط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة بدأت السلطة السورية سلسلة من الإجراءات الهادفة إلى إعادة بناء الاقتصاد الوطني من منظور إصلاحي تعيد هيكلته وتصحح توجهاته، وتفعل مساراته، غير أنها فشلت في ذاك، بسبب عدم جديتها في إجراء الإصلاحات السياسية الضرورية كمدخل لإجراء الإصلاحات الأخرى. في المقالة القادمة سوف نلقي الضوء على واقع الاقتصاد السوري قبل عام 2011.