السعودية في الإقليم

ظلت السعودية مهجوسة بخطر الهاشميين في بغداد منذ الثلاثينيات حتى عام 1957 عندما حل بدلاً منه هاجس جمال عبد الناصر، وقد تعاونت الرياض مع القاهرة منذ عام 1945 على إفشال مشاريع الهاشميين للعودة إلى حكم دمشق سواء أكان “مشروع الهلال الخصيب” المطروح من بغداد أم “مشروع سوريا الكبرى” الذي طرحه في النصف الثاني من الأربعينيات ملك الأردن عبدالله بن الحسين.

وكانت الحرب الباردة العربية سمة عقد الستينيات بين الرياض والقاهرة وكان مسرحها الرئيس هو اليمن، ولم تتوافق السعودية مع مصر سوى بعد موت عبدالناصر لينشأ ثالوث القاهرة- الرياض- دمشق بين عامي 1971 و1975 الذي كان عماد حرب 1973 وحظر النفط ، وإذا قطعت اتفاقية سيناء التي عقدها الرئيس المصري أنور السادات مع إسرائيل في أيلول/سبتمبر 1975 مجرى هذا الثالوث، فإن مؤتمر الرياض السداسي في تشرين الأول/ أكتوبر 1976 قد استأنفه من أجل إيقاف حرب السنتين في لبنان ثم لتعود زيارة السادات للقدس في التاسع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1977 لتقطعه ثانية قبل أن يستؤنف هذا الثالوث في عقد التسعينيات ضد صدام حسين وغزوه للكويت ومن أجل رعاية تسوية اتفاق الطائف في لبنان.

وفي العقد الأول من الألفية الجديدة افترقت دمشق عن الرياض بسبب تداعيات اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وبسبب تعمق الحلف الإيراني- السوري، وعلى الأرجح أن انخراط الرياض في الصراع السوري الداخلي منذ آب/ أغسطس 2011 كان يحكمه الهاجس الإيراني حيث رأت السعودية هذا الصراع فرصة أو ميداناً لإضعاف نفوذ إيران في الإقليم أومن أجل استئصاله، وإذا خف ّ اهتمام السعودية في الصراع السوري بدءاً من عام 2017، فإن هذا كان بسبب غوص السعودية في الصراع اليمني، وهو غوص أتى بدءاً من السادس والعشرين من آذار/ مارس 2015 في ظرف كان الاتفاق النووي الإيراني على وشك الانعقاد، حيث أحست الرياض بأن تفكيك إيران لبرنامجها النووي سيكون مصحوباً بإطلاق واشنطن يدي طهران في الإقليم، ويبدو أن اليمن هو خاصرة السعودية الرخوة التي تؤلمها أكثر من غيرها من الأماكن التي امتد لها نفوذ إيران الإقليمي، لذلك أرادت الرياض من عمليتها العسكرية عام 2015 أن تحمي نفسها من عاصفة اتفاق واشنطن- طهران (تم التوقيع عليه في الرابع عشر من تموز/ يوليو 2015) عبر السيطرة على اليمن من خلال قوات حليفها اليمني أي الرئيس عبد ربه منصور هادي واستئصال امتداد طهران عبر الحوثيين، وهو ما فشلت فيه الرياض في السنوات الست الماضية.

ولم تستطع الرياض استغلال اقتراب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الوثيق منها لتحصيل ما تريده إقليمياً بما فيه تصعيد ترامب ضد طهران الذي وصل في الثامن من أيار/ مايو 2018 إلى انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني المسمى بـ”اتفاق5+1″. والآن تعيش السعودية على وقع افتراق أشد مع واشنطن 2015عندما كان الرئيس باراك أوباما بسبب الموضوع الإيراني، حيث يبدو أن الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن ليس فقط مصمماً على العودة إلى اتفاق 2015 مع طهران بل له سياسات خاصة في اليمن يريد من خلالها فرض حل أميركي- ايراني هناك، كما أن له سياسات جديدة تجاه الوضع الداخلي السعودي ظهرت ملامح منها في شباط/ فبراير الماضي عندما نشرت إدارة بايدن تقرير الاستخبارات الأميركية الذي ظل حبيس الأدراج لسنتين والذي يشير بوضوح إلى مسؤولية ولي العهد السعودي المباشرة وغير المباشرة عن عملية اغتيال جمال خاشقجي، وهو أمر أو إجراء أميركي لا يمكن حصره في كونه أداة ضغط أميركية على الرياض لتمرير حل يمني أو للجم معارضة السعودية لعودة واشنطن لاتفاق 2015 مع طهران وإنما يمتد إلى رؤية أميركية لمستقبل ولي العهد السعودي السياسي الذي لم يستطع تولي ولاية العهد إلا في عهد ترامب فيما كانت إدارة أوباما معترضة على إزاحة الأمير محمد بن نايف من ولاية العهد.

هنا، يخلق هذا التفارق الأميركي- السعودي مأزقاً سعودياً هو غير مسبوق منذ تدشين علاقة واشنطن والرياض في آذار/ مارس 1945 عبر لقاء الملك عبدالعزيز آل سعود مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في سفينة الأخير عند قناة السويس أثناء عودة الرئيس الأميركي من مؤتمر يالطا مع ستالين وتشرشل الذي رسم معالم عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

على ما يبدو، من خلال المحادثات السعودية-الإيرانية التي جرت في بغداد الشهر الماضي، أن الرياض تريد استكشاف طريق جديد لتخفيف تداعيات اتفاق واشنطن وطهران هو مختلف عن طريق المجابهة الذي اختارته عام 2015 عندما شنت حرب السادس والعشرين من آذار/ مارس 2015 في اليمن ضد إرادة باراك أوباما ومن دون موافقته.

إضافة لذلك، جرت إشارات سعودية، في الأشهر الثلاثة الماضية بعد نشر تقرير الاستخبارات الأميركية المذكور، إلى أن الرياض تملك خيارات استراتجية في جعبتها مع روسيا والصين يمكن أن تستعملها في حال التفارق أو التنائي الأميركي- السعودي في شرق أوسط ما بعد عودة واشنطن وطهران للتلاقي على اتفاق 2015 من جديد أو على اتفاق معدل عنه.