ثرثرة على هامش كوفيد

تؤكد الإحصائيات في الدول المتطورة توفر ثلاثين طبيباً و80 ممرضة لكل عشرة آلاف ساكن أو فرد, أما في الدول النامية فهذا من الترف الذي لا يحلم به الكثيرون, بالإضافة لعدم تحمل الدولة في الدول النامية مسؤولياتها كتوفير الضمان الصحي الذي هومن أساسيات الحياة في الدول المتطورة. ولكن هذا العامل الصحي لا يشكل إلا واحداً من آلاف المؤشرات التي تجسد الفجوة النوعية في مستوى حياة الإنسان ما بين الدول النامية والدول المتطورة.

منذ أيام، أثارت اهتمام الرأي العام المحلي قضية موت الطفلة نهلة ذات ستة أعوام , حيث توفيت الطفلة في مخيم للاجئين سوريين بسبب تعذيب جنوني من والدها المتطرف على مرأى من الجميع دون أن يتحرك أحد لردعه, ورغم غرابة ردود أفعال بعض ذكوريي المجتمع الذين شرعنوا منذ سنوات طويلة تعذيب الإناث وقتلهن وإساءة معاملتهن لتحويل المرأة منذ بلوغها لأدوات للمتعة وللخدمة وللإنجاب, ورغم ردود الفعل العنصرية من الطرف الآخر التي لا ترحم البشر المتواجدين كرهائن في تلك المخيمات ولا ترى أي مسؤولية للنظام السوري ومن يسانده في تفاقم حالات الجهل والعنف التي وصل لها المجتمع السوري على مدى عشرات السنوات… رغم كل تلك العوائق نحن ملزمون موضوعياً بالبحث في آثار الفجوة التي تتفاقم يوماً بعد يوم بين عالم البشر الذين يعيشون في معسكر الدول النامية وهؤلاء الذين يعيشون في الدول المتطورة.

لقد كان أحد أهداف الأمم المتحدة في مشاريعها لإحلال السلام في العالم تطوير حياة الفرد ونشر العدالة الاجتماعية على مستوى العالم وردم الهوة بين العالمين. ولهذا كانت قد أعلنت عام 2019 عن يوم عالمي وهو العشرين من فبراير سمته اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية.

لكن في الواقع الكارثة الجديدة لجائحة كوفيد 19 التي أصابت العالم جعلت هذا الحلم بعيداً نوعاً ما.

وعندما نتحدث عن العالم النامي, هناك مصطلح جديد لتعريف نوع آخر من الدول وهي الدول التي تعيش أزمات ويقصد بها دول الحروب, وبالأحرى هناك أربعة عوالم مختلفة اليوم تصنف الدول اقتصادياً اجتماعياً وسياسياً وهي: الدول المتطورة, والدول التي على طريق التطور وقطعت شوطاً, والدول النامية وأخيراً دول الأزمات.

هذا الفارق بين الدول بدا أكثر دلالة مؤخراً خصوصاً عندما أصبحت المؤشرات الهامة هي أرقام وإحصائيات ضحايا كورونا وخصوصاً عدد الوفيات بها، وإمكانيات الحصول على اللقاح لسكان تلك الدول.

كما توضح للعالم الفارق الحضاري الإعلامي بين دول تخفي عدد ضحاياها لعجزها عن مواجهة الأزمة ودول تعلن بشفافية عن كافة التطورات.

في الحقيقة لم يكتشف العالم شيئاً جديداً عن الكثافة السكانية في بعض الدول كالهند التي يعيش فيها الناس بكثافة كل 500 شخص في كيلومتر واحد . كذلك لم يكتشف العالم كم هي منعدمة النظافة والوقاية في الدول الفقيرة لعدم توفر الماء والكهرباء وكذلك انعدام مقومات وكفاءات الإدارة البشرية التي أدت في لبنان مثلاً لأزمة القمامة في الشوارع منذ سنوات.

في أزمة كورونا لم يكتشف العالم أي جديد بالفارق الحضاري ولا بالفارق بمستوى حياة الفرد وتعليمه بين العوالم, ولكنه اكتشف أن حكومات الدول الفقيرة لا تملك مقومات وإمكانات حماية سكانها من الموت بكورونا.

قيل محلياً في سوريا أن السوري كان يموت بالقصف من النظام والآن يموت من إهمال النظام ذاته وجهله وتخلفه حيث لم يتمكن من إدارة البلاد فأوصلها لهذا الفشل ولا فرق. ففي كلي الحالتين أينما كان الحاكم مسؤول.

واكتشف العالم أيضاً أن الدول المتطورة كانت تملك الذخيرة والإمكانات اللوجستية والعلمية لإدارة الأزمة وتجاوزها بينما الدول الفقيرة ازدادت فقراً. حيث استطاعت الدول المتطورة الغربية إيقاف الناس عن العمل وإغلاق المتاجر والمطاعم والمصانع دون أن يتأثر دخل الفرد ومستوى حياته, ووزعت الدولة رواتب ومعاشات شهرية للجميع بلا عمل كما كانت توزع معاشات البطالة سابقاً . لقد تم توزيع مال الدولة على الشعب بكرم وسخاء وكان قرار الحكومات أن الإنسان هو الأثمن وهو الأهم وهو المحور وكانت أكبر هموم السكان الغربيين المحجورين هي السمنة والملل.

مع هذا تأثر الاقتصاد الغربي بالجائحة وكانت النتيجة انخفاض اهتمام الدول الغربية بمأساة شعوب دول الأزمات وإغلاق حدودها الاقتصادية في وجه الدول النامية التي كانت تعتمد اقتصادياً على السياحة والتبادل التجاري مع الخارج.

وفي الدول الديمقراطية حيث المواطن يقرر بحرية نوعاً ما من سيحكمه من تيارات سياسية يتوقع البعض صعود التيارات المناهضة للأجانب واستقبال اللاجئين . وقد لاحظنا في تاريخ أوربا الحديث أن الشعوب تنكفئ على نفسها وتعادي الأجانب في كل الأزمات حيث يصبح الفرد أنانياً يخشى من المستقبل ويصبح عنصرياً معتبراً الأجنبي سارقاً لفرصه في العمل.

العمل هو أول طلب للمواطن الغربي اليوم ومؤشر البطالة هو ما يؤثر على المزاج العام. السياسات اليسارية في الغرب كانت دائماً تدافع عن قيم التشارك، بينما المحافظة كانت تدعو للانكفاء على الذات لكي لا تتشارك الخيرات. وتعتبر مرشحة اليمين مارين لوبين نفسها غير عنصرية بل تريد فقط أن يعود اللاجئون لديارهم وأن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم مع حكامهم وقاتليهم وتعتبر أن أوروبا ليست مسؤولة عن الفقر في دول العالم النامي وبالتالي لا يجوز فتح باب الهجرة أو إعطاء مساعدات للأجانب وفق حقوق الفرنسيين ذاتها كما هو الحال الآن. ويخشى الرأي العام الأوروبي نجاح هذه التيارات في الانتخابات القادمة لكون المزاج العام للشعب قلق من المستقبل .

ولا يسعنا إلا أن نتساءل هل ستغير جائحة كورونا من قيم الحضارة الحديثة التشاركية، وهذا بعدما نادى بها الغرب طويلاً وعلى مدى عشرات السنوات، وهل ستنتصر التيارات الانطوائية العنصرية في الغرب؟ المنتصر هو من يكتب التاريخ فيا ترى أي من القيم ستنتصر؟