فقدت تركيا وظيفتها كجناح جنوبي شرقي لحلف الأطلسي/ الناتو ضد الاتحاد السوفياتي مع انتهاء الحرب الباردة. وحاول ساسة أتراك البحث عن دور تركي في عالم ما بعد الحرب الباردة، مثل الرئيس توركوت أوزال الذي قال بأن مجال تركيا الحيوي هو “العالم التركي” الممتد من بحر إيجة حتى تركستان شمال غرب الصين حيث يسكن شعب الإيغور، وهو ما يتلاقى مع النزعة القومية الطورانية ويتناقض مع نزعة أتاتورك القومية التي حصرت القومية التركية في حدود الجمهورية التركية التي تأسست عام 1923.
بالمقابل طرح نجم الدين أرباكان، زعيم “حزب الرفاه”، بعد وصوله لمنصب رئيس الوزراء عام 1996،أن مجال تركيا هو في الجنوب وليس في الغرب كما فكر أتاتورك منذ العشرينيات، وقد طرح أرباكان فكرة سوق اقتصادية مشتركة تضم تركيا وسوريا والعراق وإيران، وربما هذا ما عجل في انقلاب الثامن والعشرين من شباط/ فبراير 1997 ضده أكثر من كونه انقلاباً قام به ضباط علمانيون ضد رئيس وزراء إسلامي، حيث كانت واشنطن لا ترضى بفك الحصار عن العراق ولا بفكرة سوق اقتصادية مشتركة في الشرق الأوسط.
وعندما أتى “حزب العدالة والتنمية” للسلطة عبر انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 2002 كان واضحاً رضى واشنطن عن إسلاميين يمكن أن يشكلوا حائط صد إسلامي ضد “تنظيم القاعدة ” الذي كان قد ضرب برجي نيويورك قبل 14 شهراً، وكان هناك الكثير من الإشارات الأميركية عن أن رجب طيب أردوغان هو “نموذج أميركي للعالم الإسلامي في مرحلة ما بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001″،وهو ما ترافق مع بدء مفاوضات بين واشنطن والتنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين ظهرت ترجماتها في القاهرة وبغداد عندما شارك “الإخوان” في انتخابات مجلس الشعب المصري عام 2005 وحصدوا ما يعادل ربع المقاعد وعندما دخل “الحزب الإسلامي العراقي” في حكومة نوري المالكي عام 2006 كاسراً مقاطعة سنة العراق العرب للعملية السياسية التي أعقبت الاحتلال الأميركي للعراق.
هنا، إذا كان الرضى الأميركي عن أردوغان قد أنتج رياحاً أميركية لأشرعته، فإن أردوغان كان يملك مشروعه الخاص لتركيا ما بعد الحرب الباردة، وهو ما يتمثل في “النزعة العثمانية الجديدة” التي بانت ملامحها مع بدء ما أسمي بـ”الربيع العربي” عام 2011،عندما تصدر الإسلام السياسي الإخواني موجات اقتلاع أنظمة في تونس ومصر واليمن وليبيا بدعم أميركي- تركي، كما رعت واشنطن وأنقرة تزعم الطبعة الإسلامية الإخوانية للمعارضة السورية عبر تشكيل “المجلس الوطني” و”الائتلاف” في عامي 2011و2012، وعندما زار أردوغان مصر وليبيا وتونس في خريف2011، بعد سقوط مبارك والقذافي وزين العابدين بن علي، كان منظره يذكر بمنظر السلطان سليم في القاهرة بعد هزيمة المماليك بمعركة الريدانية عام1517، وبدوره هو لم يكن يخفي أنه طبعة ثانية من السلطان.
ولم يهنأ أردوغان طويلاً، حيث كان الدعم الأميركي لانقلاب عبدالفتاح السيسي على حكم الإخوان المسلمين في مصر في الثالث من تموز/ يوليو 2013 ليس انقلاباً فقط على الرئيس محمد مرسي بل انقلاباً على إسلاميي التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين وأولهم أردوغان، ويبدو أنه جرت مراجعة كبرى أميركية عقب اغتيال إسلاميين للسفير الأميركي في ليبيا في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2012،وعقب اكتشاف أن إسلاميي مالي قد تلقوا أسلحة من إسلاميي ليبيا أثناء الحملة الفرنسية في مالي بداية 2013، لتصل واشنطن إلى استنتاجات بأن “اليوم التالي” في ليبيا ما بعد القذافي، وهو ما صنعته واشنطن من خلال حملة الناتو ضد القذافي، ليس مؤاتياً للمصالح الأميركية هذا إذا لم يكن منتجاً لوضع معادٍ للولايات المتحدة الأميركية.
وفي الحقيقة، فإن يوم الثالث من تموز/ يوليو 2013 هو بداية توتر أميركي- تركي أصبح عمره الآن ثماني سنوات، وهو ما تمت ترجمته في دعم أميركي لأطراف سورية كردية منذ عام 2014 في الحرب ضد “داعش”، تنظر لها أنقرة بعين العداء الشديد، وفي دعم أميركي ظهرت دلائل عدة عليه لمحاولة انقلاب الخامس عشر من تموز/ يوليو 2016 ضد أردوغان التي قام بها عسكر أتراك، ثم كانت أكبر تجليات هذا التوتر الأميركي-التركي هو اتجاه أردوغان نحو موسكو منذ التاسع من آب/ أغسطس 2016، وهو ما قاد إلى بناء علاقة عميقة كانت حصيلتها صواريخ “إس- “400 الروسية التي تم بيعها لتركيا، وفي خط أنبوب غاز روسي يصل للبر التركي عبر البحر الأسود ليتم توزيعه على الدول الأوروبية، وفي تعاون تركي- روسي في سوريا كانت حصيلته سيطرة الأتراك بغطاء روسي على خط جرابلس- الباب- إعزاز وعلى منطقة عفرين وعلى خط تل أبيض- رأس العين بين عامي 2016و2019، ثم في اتفاق الخامس من آذار/ مارس 2020 بين بوتين وأردوغان الذي ثبت الوضع في محافظة إدلب ضمن خطوط عسكرية ثابتة ضمن نطاق زمني إذا لم يكن بعيد المدى فهو أبعد من المدى المنظور القريب.
ولكن التقارب مع موسكو، رغم المكاسب التي حصلها الأتراك من بوتين، إلا أنهم قد وضعوا في مأزق، يتمثل في أن أنقرة لا يمكن أن تلعب طويلاً ما بين البيت الأبيض والكرملين، بل عليها أن تختار أحدهما، وهو ما لا يستطيعه أردوغان مع الروس حيث أن ذلك سيولد ضرائب أميركية كبرى يمكن أن تسقطه، وفي الوقت نفسه هناك سياسة أميركية تباعدية مع أنقرة هناك مؤشرات كثيرة على أنها ستتصاعد مع إدارة بايدن.
وفي الحقيقة استطاب أردوغان اللعب بين موسكو وواشنطن، حيث حصل على مكاسب من بوتين في سوريا وفي القفقاس أثناء تسوية الصراع الأرمني-الأذربيجاني، وفي المقابل أخذ أردوغان ضوءاً أخضر من أميركا لتدخله في ليبيا منذ خريف 2019 مادام التدخل التركي كان معيقاً للتمدد الروسي في ليبيا. ومن الواضح الآن أن بايدن لن يسمح باستمرار الرقص التركي بين واشنطن وموسكو، بل سيضع أردوغان في الزاوية الضيقة لإجباره على الاختيار بين خيارين أحلاهما مر بل وشديد المرارة.
يحاول أردوغان الهروب من هذا المأزق التركي عبر محاولات التقارب مع القاهرة والرياض…
ولكن أليس هذا، إن نجح أردوغان في هذا التقارب وهو مشكوك في حصوله، أقرب إلى محاولة استخدام أفيال وقلاع وجنود ضد الوزير في لعبة الشطرنج؟..