بقية من ضمير لإيقاف الحرب

كثير من السوريين يعيشون ما يجري في سوريا على أنها ثورة تحرر على غرار الثورة الجزائرية التي عاشها الجزائريون والتي قدمت مليون ونصف شهيد على مدار سبع سنوات. وقد نختلف أو نتفق معهم ولكن هناك وجه شبه في معطيات كثيرة بين ما حصل في الجزائر من ظلم وبين ما يعيشه السوري من ظلم ولو من بعيد.

وكثيراً ما كنا، نحن من في الضفة الأخرى في العالم الثالث المناصرين لتحرير الجزائر، ننظر للوجود الفرنسي المستعمر في الجزائر على أنه وجود لسكان أوروبيين أغنياء مختلفين عن أبناء الأرض يقفون في وجه السكان الأصليين من جزائريين عرب وأمازيغ. لكن الأمر في الواقع كان أكثر تعقيداً من هذا بكثير, فعلى أرض الواقع في الجزائر لم يكن كل المستعمرين العنصريين أجانب أو أوروبيين، كان جزء كبير منهم من أهل البلد لكونهم يهوداً تم تمييزهم عن غيرهم.. هي كانت حربان في الوقت ذاته حرب مزقت المجتمع الجزائري بمكوناته الأصلية وحرب فرنسية جزائرية سياسية لسيادة الجزائر وانتزاع استقلالها, لقد كانت هناك أيضاً في الوقت ذاته حروب داخلية من الطرف الفرنسي ما زالت لم تحسم سياسياً. وفي المحصلة انتهت الحرب التي دامت سبع سنوات والتي قدم فيها الجزائريون مليوناً ونصف المليون شهيد ثمناً لاستقلال الجزائر. ولكن لحد اليوم ومن الطرفين الفرنسي والجزائري لم تُضمّد الجروح بعد.

 لم يُقل كل شيء بعد، فهناك شجون وأحاديث تنتظر وقتها وبوح واعترافات لا بد أن تسجل للذاكرة الإنسانية وللسلام, والجرح الأكبر هو الذي يرحل من أرضه دون عودة, وهذا ما عاشه بعض من شاركوا في هذه الحرب القذرة وكان مطلبهم استمرار التمييز ونكران حق المساواة مع أخوتهم بحجة أن المسلم أقل شأناً.. هذا التكبر كان سخيفاً وهذا الرفض للمساواة والعدالة دفعوا ثمنه باهظاً.

فرنسا المركز كانت متمسكة بالجزائر اقتصادياً ولكن الجنرال ديغول كان يعي أن النفوذ الاستعماري الفرنسي والبريطاني على العالم شارف على الانتهاء وأن العالم الجديد, ستقوده الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي, كان واضحاً له وضوح الشمس أن إرادة الشعوب المستعمرة ستنتصر لأن الولايات المتحدة كما دعمت أوروبا في وجه هتلر وساعدتها عبر مخطط مارشال قررت بعد هذا دعم حركات التحرر في الدول النامية ودعمت عبد الناصر ونهرو وكل زعماء الشعوب النامية. هذا الوعي لدى الجنرال ديغول وضعه في صراع فرنسي داخلي مع أنصار الحرب المتمسكين بالجزائر العنصرية على حساب الشعب المطالب بحريته.

 وفي الواقع لوكان للجزائري المسلم كما كان يسمى آنذاك حقوق المسيحي أو اليهودي ذاته هناك، لما كان شعر بالغبن بل لكان سيعتبر مواطناً فرنسياً متمتعاً بالحقوق ذاتها ولكن التمييز بذات طريقة الأبارتييد هو الذي فجر الغضب والثورة وبعدها الحرب. في الواقع هناك حرب مصطلحات تماماً كما نلاحظ الآن في سوريا, فمن جهة النظام السوري وموالوه يتحدثون عن حرب وهي حرب بقاء ومن جهة الشعب الذي قام بسبب الظلم هي ثورة . ثائر هو كل من يشعر بظلم وغبن …

 هل الثوار يعتبرون النظام السوري عدواً مستعمراً كما كان حال الجزائريين ؟

 عندما نقارن حجم العنف الذي مورس ضد الثوار الجزائريين من قبل الجيش الفرنسي في الجزائر، نلاحظ أن أسلوب العنف الحاقد هو ذاته حيث هناك تعذيب ممنهج للمعارضين, تعذيب غير موجود في دول تعتبر الشعب جزءاً من الدولة فتحترمه وتحيله لمحاكم عادلة وتضعه في سجون يحترم فيها وتتوفر له وسائل الحياة اللائقة, كان هناك في دول استعمار العصر الماضي كما في سوريا اليوم احتقار تام للشعب من قبل السلطة وهذا حتى في دولة استعمار كإسرائيل لا يمارس لهذه الدرجة اليوم بحق المعتقلين. وهو حقاً لمعيب للحكومة السورية أن تكون أكثر ظلماً مع شعبها من إسرائيل التي تعتبر دولة مستعمرة.

ولا يجوز للدولة أن تتعامل بحقد أو بعنف غير مبرر أو بكره مع أبنائها كما هو الحال في سوريا، وأما ممارسات العنف التي تمارسها الدولة لضبط الأمن داخلياً فهي بين أبناء الوطن الواحد لا بد، وأن تكون مقيدة بحدود وروادع قانونية ومحكمة، وتكون مكاناً حراً ومستقلاً للحوار والدفاع عن النفس.

من جهة أخرى، هناك تشابه أيضاً في الأسباب العميقة للثورة بين ما نعرفه في دول تمارس الأبارتييد وبين الحالة السورية مثل عدم تكافؤ الفرص, فهي في سوريا عملياً غير متساوية بين أفراد الشعب حيث هناك مميزات للبعض بحسب الانتماء الديني والعرقي والحزبي أو العسكري.

والدوامة المفرغة التي يدور بها السوريون منذ عقود هي ذاتها، تبدأ الحكومة بالتمييز والسماح بالفساد فتولد معارضة ترفض وتتمرد وينتهي الأمر بقمع من السلطة, فيزداد التمرد ثم يتحول لثورة, فيواجه بحقد وقتل لدرجة الإبادات والاعتقالات والتعذيب والقصف. حجم العنف والقتل الذي مورس على مواطنين بحجة أنهم معارضين أو ثوار يبرر وصف الشعب السوري لنظام الأسد على أنه مستعمر فكيف يقتلك أخاك إن كان حقاً أخاً وابن بلدك؟

الفارق بين الذي حصل في مصر وتونس يتمركز في نقطة العنف هذه. وقد يتساءل البعض لماذا لم يظهر في سوريا قادة لحركات لاعنف على غرار غاندي ومارتن لوثر كينغ ومانديلا؟

الجواب بسيط جداً، يشترط المهاتما غاندي صاحب نظرية ثورات اللاعنف لنجاح هذه السياسة تمتع الخصم ببقية من ضمير تمكنه في النهاية من فتح حوار موضوعي مع الطرف الآخر

وهنا لا يسعنا إلا أن نسأل بعيداً عن الصراعات الخارجية على سوريا، هل هناك مقومات حوار موضوعية في هذا الصراع؟

في الواقع هذا يتطلب تغييراً حقيقياً في بنية وأسس الطرف الذي يملك السلطة أي النظام، وهو رافض جدياً لهذا التغيير، تغيير فكرة التمييز، ففرض فكرة المساواة تعني إنهاء فكرة حكم الطائفة والأقليات، نقصد بحكم الأقليات حكم الطائفة العلوية بالتحالف مع الأقليات الدينية والفكرية, وهذا في سوريا أتى ليعمق الفجوة بين عموم الشعب والحكومة .

 وبالعودة للمقارنة مع ما حصل في الجزائر، الحقد والعداء في الجزائر أيضاً كان بين أبناء بلد واحد، ففرنسا ميزت اليهود وبعض المتعاونين معها ضد شعب بأكمله والذين كانوا مستميتين ورافضين إنهاء الحرب ضد الجنرال ديغول، وكان اليهود والمستوطنون الفرنسيون وكذلك الجزائريون الحركيون أصحاب مميزات، أي أن يهود الجزائر لم يكونوا أوروبيين، بل هم كيهود المغرب والمشرق من السكان الأصليين الذين ينتمون بعمق لهذه الأرض.

 ونبههم، حينها، الجنرال ديغول قائلا لا تتمادوا بالعنف كي لا تندموا. ولم يتعظوا والدماء التي أريقت في الجزائر عمقت الجروح ولم يتمكن يهود الجزائر من العودة ثانية لأرض أجدادهم، ولم يتمكن الجزائريون بعد الاستقلال من المسامحة وما زال الجرح مفتوحاً ينزف، ولم تستقر الجزائر ولم تطوِ فرنسا الصفحة وبقيت الذاكرة حية بعداء.. سبع سنوات دماء بين أبناء أرض واحدة من اليهود والمسلمين فرقتهم رغم أنهم ما زالوا يتحدثون اللهجة نفسها ويسمعون الأغاني ذاتها ولهم التقاليد ذاتها, هذا العداء غير موجود في المغرب ولا في تونس لأن الدماء لم ترق هناك.

وكان اليهود قبل الأزمة التي شكلتها قيام دولة إسرائيل مثل كل أقليات العالم العربي والإسلامي متواجدين كسكان أصليين في كل الدول ومازال بعضهم فيها، ولكن بسبب الدماء أصبحت هناك فجوات.

وفي سوريا لا توجد أقلية واحدة دينية كما حال الجزائر، بل أنواع كثيرة من الأقليات والخطأ الذي يجب تصحيحه هو تراجع الأقلية العلوية (بأغلبيتها) عن نهج العنف كونها مسيطرة على الجيش.

لن نستطيع أن نمضي خطوة للأمام دون أن نعترف ونسمي الأشياء بأسمائها.