في الرقة.. عازفو موسيقا مزقوا أكفان آلاتهم وينفضون ذكريات الرعب

الرقة – نورث برس

مع بدء إحكام تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قبضته على مدينة الرقة شمالي سوريا مطلع العام 2014، سارع خميس الطعمة (48عاماً)، إلى إخفاء آلة العود خاصته خشيةً من مغبة العقوبة التي كان من المحتمل أن تصل إلى “جز الرقبة”.

في هذه الأثناء بات عازفو الموسيقا والمغنون الشعبيون أمام واقع استثنائي مرعب، فـ”مدينة الرشيد بعد داعش ليست كما قبله”، ما اضطر الجميع لإخفاء آلاتهم، والتي سيحرمون منها لأربع سنوات تالية. 

يقول “الطعمة”: “مجرد التفكير بمحاولة العزف كان مستحيلاً. كنت أضطر للخروج إلى البرية لإخماد شوقي للعزف والغناء. لقد كنا في مأساة.”

لم يحرم التنظيم المتشدد السكان من ممارسة السياسة والفكر ومشاهدة التلفاز والاستماع إلى الراديو وتربية الطيور فقط، “بل منع الفرد من ترجمة مشاعره أيضاً”، طبقاً لخميس الطعمة.

خميس الطعمة

ابتكر العازفون طرقاً مختلفة للتخلص من آلاتهم، فمنهم من “كفّن” آلته داخل صندوق وأخفاه في مكان ما في منزله، ومنهم من اضطر لتحطيمها والتخلص منها بصورة نهائية.

لمتابعة جميع الأخبار… حمل تطبيق
نورث برس من متجر سوق بلاي

يقول “الطعمة”، كان التنظيم يزرع في كل مبنى شخصاً يشي بمعلومات حول السكان وتصرفاتهم. “كان هذا الواشي يسترق السمع إلى جانب شمشمة رائحة دخان السجائر.”

في فترة سيطرته على المدينة فرض “داعش” قوانين متشددة تقيد الحريات الشخصية الأساسية، فحدّد زياً خاصاً بالنساء، ومنع التدخين والنرجيلة، كما منع استخدام الهواتف النقالة، وحجب جميع النشاطات الفكرية والثقافية.

يقول عازفون التقت بهم نورث برس إن هذا الواقع خلق نوعاً من التأقلم من قبل السكان، وحتى بعد طرد التنظيم من المدينة واجه قسمٌ من السكان صعوبة في التخلص من أمور اعتادوا عليها خلال تلك الفترة.

يقول “الطعمة”، المعاناة التي لاقاها فنانو الرقة كانت مريرة جداً، فمجرد الدندنة بينك وبين نفسك كان يمكن أن يعرضك لإهانة، “كان يمكن أن تتعرض للجلد في ساحة أمام الناس، أو أن يحكم عليك بالسجن.”

بعد طرد التنظيم المتشدد من المدينة عام 2017 على يد قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي، سارع خميس الطعمة، إلى مخبأ عوده ليمزق كفنه ويخرجه للنور مجدداً، تماماً كما سارع إلى تكفينه يوم دخل التنظيم المدينة قبل أربع سنوات.

لكن “الطعمة” تفاجأ باهتراء آلته، ما دفع بأحد أصدقائه لإهدائه عوداً جديداً، ويقول بحسرة: “أصابعي أصبحت بطيئة الحركة، وكأني لم أكن أعزف من قبل. احتجت لتدريب وممارسة مستمرة حتى عدتُ لسابق عهدي.”

يضيف: “قامت الإدارة الذاتية بفتح المركز الثقافي مجدداً، والآن أمارس هوايتي بكل حرية، نحن في المركز الثقافي مستعدون لاستقبال أي شخص يريد تعلم الموسيقا.”

وبالرغم من ذلك إلا أن الرقة تفتقر إلى معاهد خاصة لتعليم الموسيقا.

خالد إبراهيم

يقول خالد إبراهيم (50عاماً)، وهو عازف عود أيضاً، وكان حاضراً أثناء سيطرة التنظيم على الرقة، إن المدينة باتت “مركزاً ثقافياً”، إذ بإمكان أي راغب في تأسيس مشروعه الخاص افتتاحه دون عراقيل.

ويضيف: “واثقٌ أن الرقة ستصبح مدينة مثالية بأخلاقها وفنها وقيمها، رغم بعض الشوائب التي مستها أثناء حكم داعش.”

ربابة نفضت الغبار

يقول عبود الشواخ (52عاماً)، وهو عازف ربابة، إنه كغيره أضطر لإخفاء آلته في صندوق قديم حتى نفض عنها الغبار بعد سنوات.

ويتذكر الرجل أيام ما قبل “داعش” وكيف كان يخرج بشكل شبه يومي للحفلات الشعبية الخاصة مع آلته، إلى جانب عازف دف.

ويقول: “عندما كنت اشتاق للعزف، كنت أقترب من الصندوق لأخرج الربابة، لكن سرعان ما أتراجع لخوفي الشديد من العقوبة.”

ويضيف: “سألني عناصر داعش مرة إن ما زلت أعزف، أجبتهم: لا لقد تبت وعدت إلى ديني، قلت ذلك خوفاً من العقوبة.”

في تلك السنوات العجاف كان دوار النعيم وسط المدينة ينشر الرعب بشكل شبه يومي، كانت مشاهد جلد المتهمين وجز رقابهم تجري أمام الجميع.

والآن يحاول كلٌّ من خميس الطعمة، وعبود الشواخ ومثلهما العشرات من العازفين وهواة الفن أن ينسوا تلك المرحلة، وينفضوا عن ذاكرتهم ما عاشوه من رعب حينذاك، تماماً كما نفضوا الغبار عن آلاتهم الموسيقية.

إعداد: عمر علوش – تحرير: حمزة همكي