لماذا الإصرار الأميركي على الاتفاق مع إيران؟

يثير الرئيس الأميركي جو بايدن الكثير من الغضب لدى حلفاء واشنطن في تل أبيب والرياض وأبوظبي من خلال مضيه في طريق الاتفاق مع إيران غير ملتفت لاعتراضات أولئك الحلفاء، وقد وصلت الحالة لدى الإسرائيليين لمحاولة تخريب المفاوضات الجارية في فيينا من خلال الهجوم السيبراني على مفاعل نطنز والذي اختار الإسرائيليون توقيته أثناء زيارة وزير الدفاع الأميركي للدولة العبرية. وهناك اعتراضات كثيرة في الكونغرس الأميركي على الاتفاق مع ايران وهذا لا يشمل الجمهوريين فقط بل يشمل أعضاء في الحزب الديمقراطي.

وهنا قد يثير الحيرة اتفاق 2015 الذي عقده الرئيس الأميركي باراك أوباما مع طهران والذي قضى بتجميد وتفكيك عمليين للبرنامج النووي الإيراني بالترافق مع إغماض العين الأميركية عن تمدد طهران في إقليم الشرق الأوسط ، تماماً كما أثيرت الكثير من الأسئلة عن غض بصر واشنطن عن وقوع العراق المغزو والمحتل أميركياً بيدي الإيرانيين، وليس صحيحاً ما قيل عن أن  الأميركان هم “محتل فاشل لا يعرف اليوم التالي السياسي  لفعل الاحتلال العسكري.” صحيح أن واشنطن قد فرضت عقوبات اقتصادية قاسية على طهران منذ عام 2005 مع بدء طهران في برنامج تخصيب اليورانيوم، ولكن كان الهدف هو الوصول لاتفاق مع إيران حول البرنامج النووي الإيراني وليس حول سياساتها في الإقليم بما فيه العراق، وإن كان من الدقة القول بأن انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب عام 2018 من الاتفاق مع الإيرانيين كان هدفه إعادة الاتفاق مع طهران ضمن سلة تشمل البرنامج النووي الإيراني وسلاح طهران الصاروخي وسياسات إيران في الإقليم.

على هذا الصعيد، تبدو تفاوضات بايدن ،التي مازالت غير مباشرة مع اللإيرانيين في العاصمة النمساوية فيينا، هي أقرب إلى توجهات أوباما من قربها مما طرحه ترامب، حتى مع تلويح مسؤولي إدارة بايدن بأن المفاوضات يمكن أن تشمل سلة ترامب الثلاثية المحتوى، ولكن مجرى المفاوضات في فيينا يوحي بالتركيز على شروط أميركية لا تشمل ما طرحه ترامب لعودة واشنطن للاتفاق في مقابل طلب إيراني برفع عقوبات ترامب كشرط لعودة طهران عن خروقاتها لاتفاق 2015 لا أكثر.

هنا يجب إعادة فحص الأمور، فتلاقيات واشنطن مع طهران تجاه عراق 2003-2005، وتلاقيات أوباما مع الايرانيين في اتفاق 2015، وإصرار بايدن على العودة لذلك الاتفاق، توحي ثلاثتها بأن هناك استراتيجية أميركية للتلاقي مع الإيرانيين يجب محاولة مقاربتها المعرفية. وعلى الأرجح أن الهم الصيني عند الأميركان الموجود منذ التسعينيات، عندما تم وضع بكين كمتحد رئيس للقطب الأميركي الأوحد للعالم في مرحلة ما بعد هزيمة السوفيات في الحرب الباردة، هو وراء تلك المحاولات الأميركية للتلاقي مع طهران، فإيران يمكن أن تسد طريق الصين إلى الشرق الأوسط هي وأفغانستان، وليس صدفة أن يبدأ التعاون الأميركي- الإيراني أثناء الغزو الأميركي لأفغانستان بعد أربعة أسابيع من 11 سبتمبر 2001 ثم يثنى هذا التعاون في عراق2003.

وإيران أيضاً، إن تم كسبها أميركياً ، ستكون المانع من تشكيل ثالوث بكين – موسكو- طهران الذي يخشاه الأميركان كثيراً وهي ستكون المانع أمام تشكيل خماسي بكين- موسكو- طهران – إسلام آباد- أنقرة الذي يمكن أن يجعل القطب الأميركي الأوحد للعالم في حكم المنتهي.

طهران هي بيضة القبان الذي يمنع أو يجعل ذلك الثلاثي أو الخماسي ممكن الحدوث. بالمناسبة هناك إشارات من طهران على أن متشددي السلطة الإيرانية لم يعودوا ميالين، بخلاف الإصلاحيين بزعامة حسن روحاني وجواد ظريف،إلى الاتفاق مع واشنطن، بل يفضلون المضي قدماً نحو الشرق بالترافق ربما (رغم فتوى السيد علي الخامنئي بتحريم امتلاك السلاح النووي) مع الاتجاه إلى تكرار السيناريو الكوري الشمالي عندما استفاق العالم ذات صباح على تجربة نووية أعلنت امتلاك بيونغ يانغ للسلاح النووي، وهم يخشون من أن الاتفاق الإيراني-الأميركي ستكون له ترجمات إيرانية تجعل الإصلاحيين راجحي الكفة في السلطة وفي المجتمع، وهم يقرؤون بالتأكيد التجربة الأميركية مع الاتحاد السوفياتي عندما كان الوفاق الدولي بين عملاقي عالم الحرب الباردة في سبعينيات القرن الماضي مساعداً على نمو اتجاهات سياسية- اقتصادية- ثقافية في المجتمع السوفياتي أصبحت بالتدريج على تصادم مع (الحزب الواحد) و(رأسمالية الدولة) لصالح (الديموقراطية السياسية) و(اقتصاد السوق) حتى تم حسم الأمور في فترة 1985- 1991عندما قامت البنية المجتمعية السوفياتية بتكنيس البنية الدولتية.

وربما هناك أهداف أميركية أخرى من التلاقي مع طهران، منها إبعاد إيران عن الروس بل جعل طهران متصادمة مع موسكو في الشرق الأوسط وفي منطقة القفقاس وفي منطقة آسيا الوسطى .

بالتأكيد لا يخفى على الأميركان أن تمدد إيران في إقليم الشرق الأوسط الذي بدأ من العراق المغزو والمحتل أميركياً قد أثار توتراً سنياً- شيعياً في عموم العالم الإسلامي، هو غير مسبوق سوى في فترة الصدام العثماني- الصفوي الذي بدأ في معركة جالديران عام 1514 واستمر لأكثر من قرن من الزمن، وأن هذا التوتر قد استفادت منه واشنطن كثيراً من حيث زيادة ارتماء دول الخليج في الحضن الأميركي، هذا إذا لم نقل إن هذا التوتر الناتج عن ذلك التمدد الإيراني قد دفع دولاً خليجية معينة للتقارب مع اسرائيل، وهذا أمر لم يخفه مسؤولون إماراتيون وبحرينيون في الصيف الماضي أثناء عملية تطبيع علاقاتهما مع تل أبيب. ويعرف الأميركان بأن هذا التوتر سيزداد في حال عادت واشنطن للتلاقي مع الإيرانيين.

هنا، تبقى المفاوضات في فيينا مفصلية من حيث رسم مستقبل إقليم الشرق الأوسط، وهي سترسم هذا المستقبل إن نجحت، وهي سترسمه أيضاً إن فشلت.