تحقيق: رافي طعمة
لم تتوانَ حكومة دمشق خلال السنوات الماضية من عمر الحرب السورية، عن إجراء كل استحقاقاتها الانتخابية، سواء الرئاسية منها أم انتخابات المجالس المحلية والبرلمانية، بغض النظر عن مدى شرعيتها أو حتى إن كان يمكن تسميتها أصلاً “انتخابات”.
وخلال الأشهر الماضية، ازدادت وتيرة التصريحات من قبل مسؤولي حكومة دمشق حول انتخابات 2021، إذ لم يتركوا فرصة دون التأكيد على إجرائها وفق الدستور الحالي، أو ما يُعرف بـ”دستور 2012″ ضاربين بعرض الحائط أي تحركات سياسية من قبل المجتمع الدولي، بهدف التوصل إلى دستور جديد في اجتماعات “اللجنة الدستورية”، وهو ما كان يمكن أن يمهد لانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة.

لعلّ السؤال عن إصرار سلطات دمشق على إجراء هذه الانتخابات بات من الماضي بعد أن “صار خلفنا” كما كان متوقعاً، لكن محاولة فهم هذه الحيثية ينطلق من معرفة العقلية التي تسيّر هذه السلطة.
الدكتور سام دلا، الذي شغل العديد من المناصب والمسؤوليات الحكومية منها عمادة المعهد العالي لإدارة الأعمال بين عامي 2009 – 2013 و عضو في لجنة صياغة الدستور عام ٢٠١٢، يقول لنورث برس: “إن النظام يدرك كما يدرك الأميركي والأوروبي والأممي بأن لا شرعية حقيقية لهذه الانتخابات.”
ويقول أيضاً: “كما يدرك إن استمراره وشرعيته لا تتعلق بالانتخابات، وإنما فقط باللعب على التناقضات الدولية، ويأمل بأنه في مرحلة ما يمكن إعادة تعويمه، وخاصةً إذا علمنا بأن لعبة الزمن لعبة متأصلة وأصيلة لدى النظام منذ قيامه.”
ويرى المعارض منذر خدام، القيادي في هيئة التنسيق السورية المعارضة: “من الطبيعي أن يجري النظام الانتخابات في موعدها بغض النظر عن مواقف المعارضين منها.”
ويقول في حديث لنورث برس: “هي رسالة تحدي مفادها أن لا حل سياسي إلا ما يرضى عنه النظام، وذلك بالرغم من أن السوريين سوف يدفعون ثمن هذا الإصرار، لأن هذه الانتخابات تعني استمرار الأزمة وزيادة حدتها، خصوصاً فيما يتعلق بحياة ومعيشة السوريين، وفي بقاء سوريا مجزأة.”
يعتقد كثيرون أنه ما كان لهذه الانتخابات أن تبصر النور لولا الداعميَن الأساسييَن اللذين يتكئ عليهما “نظام” الأسد، وبالأصح لا يتحرك قيد أنملة دون موافقتهما، روسيا وإيران.
فلماذا تصر الدولتان المتحكمتان في قرار الأسد ونظامه على إجراء هذه الانتخابات بالرغم من الرفض العالمي لها والطعن بشرعيتها؟
يحمّل المعارض السوري لؤي حسين، رئيس “تيار بناء الدولة”، روسيا “المسؤولة الرئيسية عن إصرار النظام على خوض معركة الانتخابات.”
يقول حسين لنورث برس: “روسيا تريد الإبقاء على الوجه القبيح للنظام، تريد الاحتفاظ بقدرتها على تعديله حين تقايض به أميركا وليس حين تقتضي مصالح سوريا والسوريين، هي تفكر بمصلحتها لوحدها، ومصلحتها أن تحقق بعض المكاسب من عملها هذا.”
ويرى حسين أنه “كان بإمكان روسيا، على الأقل، القيام ببعض الإجراءات التي تضفي على الانتخابات الحالية ما يمنحها بعض الشرعية، أو ألا يكون الموقف الدولي مع عدم شرعيتها بهذا التشدد.”
ويضيف: “كان بإمكان روسيا أن تجعل منها جولة تدريبية على انتخابات حرة ونزيهة من دون خسران بشار الأسد كفائز مؤكد بالانتخابات.”
ولا يتوانى الدكتور سام دلا، عن وصف القيادة الروسية بأنها “مافيا لا أكثر”، معتبراً أن “بوتين وجد في المسألة السورية منصة له لمحاولة استعادة دور ما في النظام العالمي ولو بتكاليف باهظة، فبوتين لديه سياسة خارجية ترتكز على القوة على حساب وضع روسيا الداخلي.”
ويلفت دلا إلى أنه زار روسيا عدة مرات عندما تخرج من موسكو. يقول “تشعر بأنك في بلد فقير معدم، ولذلك يدعم بوتين الأنظمة القمعية في العالم، ويدرك أنه بسقوط هذه الأنظمة سوف تتجه الأنظار نحوه.”
ويقول: “معظم مفاتيح القرار في المسألة السورية باتت بيد روسيا، وستستمر باللعب في الورقة السورية على أمل أن يأتي الوقت الذي يقبل فيه الغرب مقايضتها عليها.”

في دورة برلمانية استثنائية، حدّد مجلس الشعب التابع لحكومة دمشق، يوم الأحد، السادس والعشرين من أيار/مايو المقبل موعداً للانتخابات الرئاسية في الداخل بينما حدد موعد الاقتراع للسوريين “في السفارات في الخارج” في 20 أيار/مايو.
كما أعلن عن فتح باب الترشح اعتباراً من يوم الإثنين 19 نيسان/أبريل ولمدة عشرة أيام (أقفل باب الترشح يوم أمس الأربعاء 28 نيسان/أبريل).
في مهلة العشرة أيام، تقدم واحدٌ وخمسون شخصاً، بينهم “المتقدّم” بشار الأسد، بأوراق ترشحهم للانتخابات الرئاسية، في سابقة لم تحدث في تاريخ البلاد.
هذا الرقم يؤكد كما يقول الدكتور “دلا”، “مهزلة مسرحية الانتخابات”، لكن “حتى هذه المسرحية لا يتم إخراجها بأدنى معايير الحرفية، فبتفحّص بسيط للسيرة الذاتية للمرشحين ستعرف بأنهم مغمورون، وفوق ذلك هم سينتخبون السيد الرئيس!”
ويضيف: “قبول أي مرشح Comparsa يتوقف على توجيه من أجهزة الأمن لأعضاء مجلس الشعب لمنحه 35 تأييد لقبول ترشيحه، أي مشروط بالالتزام بسيناريو المسرحية، وغير مسموح للـ Comparsa بالخروج عن النص، وبالنسبة له سيكون شرف عظيم له منحه هذا الدور.”
ويشير “دلا” إلى أن البعض منهم ليس لديه من يعلّق على ما يكتبه في صفحته على “فيس بوك”، هذا مجرد نمط من الكومبارس Comparsa الانتخابي.”
وحول ترشّح أحد مرشحي أحزاب المعارضة الداخلية (محمود مرعي) للانتخابات الرئاسية، يقول “دلا”، على الرغم من أن الرجل يصنف تاريخياً بأنه معارض، فإن معارضته نوع من “الدايت السياسي المصنع بمكتب مدير مكتب الأمن الوطني، وهنا أتكلم عن معلومات لا تحليل.” على حد قوله.
وعلمت “نورث برس” من مصادر في مجلس الشعب أن “المعارض” محمود مرعي، وعضو مجلس الشعب السابق عبدالله السلوم عبدالله، هما المرشحان اللذان سـ”ينافسان” بشار الأسد في “المعركة الانتخابية”، وذلك بعد توجيهات عليا لأعضاء مجلس الشعب بإعطائهما الأصوات الكافية لترشحهما.
ولم يستبعد المصدر إضافة “لمسة أنثوية” على “العرس الانتخابي” عبر تأييد الأعضاء لإحدى السيدات المتقدمات للترشح.
مصدر آخر كشف لنورث برس أن ما يعيق إنجاز هذه التمثيلية أن أعضاء المجلس من “أحزاب الجبهة الوطنية” والمستقلين رفضوا إعطاء أصواتهم لمرشح آخر عدا الرئيس الأسد، في “مزاودة على النظام نفسه” الذي يرغب في إخراج مسرحية “ديمقراطية” قدر الإمكان.
تُنظّم الانتخابات الرئاسية السورية، بموجب الدستور الذي تم الاستفتاء عليه في 2012، فيما لم تسفر اجتماعات اللجنة الدستورية التي تضم ممثلين عن الحكومة والمعارضة، برعاية الأمم المتحدة، عن أي نتيجة فيما يتعلق بالاتفاق على دستور جديد للبلاد.
وتنص المادة 88 من الدستور الحالي على أن الرئيس، لا يمكن أن يُنتخب لأكثر من ولايتين كل منها سبع سنوات. لكن المادة 155 توضح أن هذه المواد لا تنطبق على الرئيس الحالي إلا اعتباراً من انتخابات 2014.
ومن شروط الترشح للانتخابات أن يكون المرشح قد أقام في سوريا بشكل متواصل خلال الأعوام العشرة الماضية، ما يغلق الباب أمام احتمال ترشح أي من المعارضين المقيمين في الخارج.
ولقبول ترشيحه، يحتاج المرشح تأييد 35 عضواً على الأقل من أعضاء مجلس الشعب، الذي يسيطر عليه حزب البعث الحاكم.
لكن الدستور الحالي بحسب لؤي حسين، ساقط على المستوى الوطني، فـ”نصف السوريين على الأقل لا يرتضونه دستوراً لهم.”
يضيف: “مع ذلك فإن صفة الدستورية لا تعني أي شيء إطلاقاً، ولا تعطي أي ميزة للانتخابات، لأن أي انتخابات في الكون هي دستورية بشكل ما، لكننا بحاجة إلى انتخابات شرعية.”
“ولا تكون الانتخابات شرعية من دون أن تكون “حرة” و”نزيهة”، والانتخابات السورية معدومة الحرية ومعدومة النزاهة”، وفقاً لرئيس تيار بناء الدولة.
كذلك تحتاج الانتخابات لتكون شرعية أن تحظى باعتراف دولي، فلا يكفي اعتراف روسيا وإيران بها أبداً.
ويرى حسين أنه من الضروري القول إنه “لا يوجد أي نص دستوري أو أي اتفاق دولي يمنع بشار الأسد من الترشح، ولا يوجد في القرار ٢٢٥٤ أي عبارة تفيد بتأجيل الانتخابات إلى حين إقرار التسوية السياسية.”
لكن النقطة الأكثر أهمية، حسب قوله تكمن في السؤال: “لماذا هذه الانتخابات إذا لم يكن هناك من يعترف بشرعيتها غير الموالين للأسد أو الخائفين منه؟”
من جهته، يرى الدكتور سام دلا أن “الانتخابات في سوريا ومنذ وصول البعث للسلطة لم تكن تتمتع بأي مشروعية أو مصداقية قانونية أو أخلاقية.”
يقول: “النظام يسيطر على أنفاس الناس، حيث لا توجد بيئة سياسية وقانونية تضمن الحد الأدنى لوجود انتخابات تنافسية، وحتى لانتخابات لجنة حي أو حتى لجنة نقابية، مروراً بكل مستويات الانتخابات المفبركة فما بالنا بانتخابات رئاسة الجمهورية.”
ويضيف: “قوانين الانتخابات لا تتضمن أدنى معايير التنافس، من يمسك السلطة يسيطر ويستخدم المال العام كما يحلو له، لا صدقية لصناديق الاقتراع، حيث تاريخياً الأطفال في المدارس يشاركون في الانتخابات (لا يوجد لوائح شطب، ومن يريد يمكنه أن ينتخب)، والفرز لا قيمة له، لا إعلام ليتحدث ولا رقابة تراقب هذه الانتخابات.”
ويوافق الدكتور منذر خدام، على كلام دلا، ويقول: “إن الانتخابات في سوريا لم تكن في يومٍ من الأيام شرعية، ببساطة لغياب الحرية، وبالتالي عدم وجود حياة سياسية طبيعية.”

يتحدث الدكتور سام دلا، عن الانتهاكات التي يتعرض لها الدستور الحالي في “مسرحية المرشحين الممتدة” حسب وصفه.
يقول “دلا”: “بموجب الفقرة 3 من المادة 85 فإن المحكمة الدستورية العليا لا يمكنها أن تقبل (أي أن تتلقى وتسجل لديها) طلب الترشيح إلا إذا كان طالب الترشيح حاصلاً (وهذا ما يفيد مسبقاً) على تأييد خطي لترشيحه من 35 عضواً على الأقل من أعضاء مجلس الشعب.”
ويضيف: “ليس في الدستور ما يُفيد أن أعضاء مجلس الشعب يصوتون بشكل سري في مكتب رئيس المجلس لمنح التأييد الخطي للمرشح.”
“السياق والمنطق يفترض أن المرشح عليه أن يحصل على تأييد خطي مسبقاً من عضو المجلس (أي بعلاقة مباشرة بين المرشح وعضو المجلس) ويجمع 35 توقيعاً لكي يتمكن من تقديم طلبه للمحكمة الدستورية العليا، وبعد ذلك تتأكد المحكمة من صحة الوثائق المقدمة من المرشح.”
ويرى “دلا” أن السرية هنا تؤكد الشبهة المفترضة والمكشوفة لعملية إخراج مرشح ” Comparsa” كمتطلب لشكلية المنافسة.”
من جهتها، ترى المحامية رنا العبد (اسم مستعار) أن “المسرحية الانتخابية كانت بحاجة، لكي تكتمل، إلى أن يتقدم مسيحيون ودروز إلى انتخابات رئاسة الجمهورية، بعد أن تقدمت سبع نساء بطلبات ترشحهن إلى المحكمة الدستورية.”
وتفنّد العبد في تصريح لنورث برس، الآلية التي تمت عبرها طلبات التقدم فتقول: “قُدمت كتب الترشيح إلى مجلس الشعب الذي وافق على ترشيح المتقدمين بطريقة مقلوبة، حيث أن المرشح/ة يحتاج إلى موافقة 35 عضواً من مجلس الشعب، وبهذه التواقيع يتقدم المرشح أو المرشحة إلى المحكمة الدستورية التي بدورها تقدمه إلى مجلس الشعب لتعلن القبول.”
لكن ما حدث بحسب المحامية، كان بالمقلوب، “ولم يكن هذا هو الخرق الوحيد لما جاء في الدستور الحالي، بل تم تجاوز الدستور بشكل محير فيما يتعلق بقبول ترشّح نساء، وإن شكلياً، علماً أن الفقه الإسلامي مصدر رئيسيي في التشريع.”
وتستغرب المحامية من جهة أخرى كيف يتم التلاعب باللغة، علماً أن المادة في الدستور التي تقول (ألا يكون متزوجاً من عير سوريّة) واضحة، حيث تمت الفبركة اللغوية بأن المقصود فيها الذكور والإناث.
أما مسألة دين رئيس الجمهورية فواضحة وضوح الشمس ولا يمكن التغاضي عنها.” وفقاً للمحامية العبد.
انتخابات لربع السوريين
تكتسب انتخابات الأسد ونظامه صفة “اللاشرعية” من كل النواحي، وخاصةً الأخلاقية منها، فنظام قتل من قتل من السوريين وهجر ما يزيد على ستة ملايين إلى خارج البلاد، وأفقر وأذلّ من بقي داخل البلاد لا يحظى بأي شرعية أخلاقية كما يقول كاتب وصحفي من اللاذقية رفض الكشف عن هويته.
لكن هذا الواقع يعني أيضاً أن عدد المشاركين أو من يحق لهم المشاركة في التصويت لا يتعدى نسبة 25% من التعداد الكلي للسوريين.
يقول منذر خدامـ في هذا السياق “بالنسبة لهذه الانتخابات المصيرية لمستقبل سوريا والخروج من الأزمة فإنه يجب ملاحظة أن المجمع الانتخابي فيها هو الأصغر في تاريخ الانتخابات.”
ووفقاً لخدام فإن “مناطق شرق الفرات لن تشارك فيها باستثناء المتواجدين في المربع الأمني، وإدلب وشمال سوريا لن تشارك أيضاً، وعدد سكان المنطقتين يتجاوز ستة ملايين نسمة، وهناك أيضاً مناطق الأرياف التي شهدت دماراً واسعاً لن يشارك قاطنوها في الانتخابات غالباً.”
ويضيف: “بحسب بعض المعلومات فإن سكان درعا والسويداء لن يشاركوا أيضاً، وسوف تقتصر المشاركة في هذه المناطق على الموظفين والقوات المسلحة وعناصر الأمن، كما أن اللاجئين في الخارج وعددهم يزيد عن ستة ملايين لن يشاركوا.”
باختصار، يقول خدام: “لن يتجاوز المجمع الانتخابي ككل حدود 25 بالمئة، وبطبيعة الحال لن يشارك كثيرون منهم في الانتخابات لأنهم يعلمون النتيجة سلفاً.” على حد قوله.
عزوف ونفور
كل ما سبق لا يعني أن نسبة 25% ممن يمكنهم الانتخاب سيشاركون في “العرس الديمقراطي” كما يصفه إعلام “النظام”، فالسوريون باتوا اليوم في وادٍ ونظامهم في وادٍ آخر، كما يرى الصحفي المقيم في اللاذقية.
ويقول: “عن نفسي لن أشارك في هذه الانتخابات لسبب بسيط، هو أنني بينما أكتب هذا الكلام أطلب ممن طلب مني رأيي عدم إعلان اسمي، ﻷنني لو فعلت ذلك على رؤوس اﻷشهاد كما يقول المثل، لكان هناك من يقيم الدنيا ويقعدها فوق رأسي.”
ويؤكد الصحفي على أن “هذا اﻷمر حقيقي وليس تخوفاً واحتياطاً مني خوفاً على عائلتي، بقدر ما هو سياسة يتبعها “الشباب الطيبة” كما يسمونها هنا (المقصود الجهات اﻷمنية) التي توافق لك على رأيك إذا كان موافقاً لرأيها وتوجهاتها، في حين أنك قد تتعرض لمساءلات لا تنتهي خلاف ذلك.”
يضيف: “50 مرشحاً تقدموا بطلباتهم لا نعرف كسوريين منهم أحداً اشتغل بالشأن العام السوري، وليس معروفاً على مستوى حارته أو دكانته.”
باختصار، يقول الصحفي: “لا قيمة لهذه الانتخابات التي سوف تشهد عرساً وطنياً إجبارياً، وربما لن يكون إجبارياً، ﻷن الناس تحتاج إلى ساحات اجتماع للدبكة.”
منحبكجية.. حتى الرمق الأخير
بالرغم من كل ما سبق، ينبغي عدم نفي وجود قطاع مهم صادق من مواليّ “النظام”، وهذا القطاع يستنكر أصلًا أن يسمح النظام لمرشحين آخرين بدخول العملية الانتخابية.
هذا القطاع أكثر تطرفاً من “النظام” ذاته، كونه غير معني أصلاً بمراعاة أي ضغوط خارجية أو تقديم مجاملات شكلية وبسيطة جداً، كما هو حال “النظام”. وربما يستعصي هذا القطاع على أي إمكانية لدفعه إلى التقدم خطوة في اتجاه التفكير الحرّ إلا من خلال صدمة تعادل “غياب أو تغييب الأب” من منظور علم النفس.
مضر واحدٌ من هؤلاء، يعمل الشاب الثلاثيني في وزارة الموارد المائية بصفة مهندس، ويقضي بقية يومه في الإتجار بالبنزين (في السوق السوداء) إلا أنه لا يتخيل بديلاً عن الأسد في حكم هذه البلاد كما يقول، ويرمي بكامل أزمات ومآسي السوريين وبلادهم على “الحصار الجائر” و”الحرب الكونية” و”خيانة فئة كبيرة من السوريين لوطنهم وقائدهم.”
آخرون يندرجون ضمن فئة المستفيدين من “النظام” بشكل أو بآخر، وأولئك الخائفين على حياتهم في حال سقوط “النظام” واستلام ما يصفونهم بـ”المتشددين الإسلاميين” هم ضمن شريحة المشاركين بالانتخابات والذين سيعطون أصواتهم لبشار الأسد.
تواطؤ ضمني
في فصل خاص من كتابها “السيطرة الغامضة؛ السياسة، الخطاب، والرموز في سورية المعاصرة” تفرد الباحثة الأميركية ليزا وادين (أستاذة ورئيسة قسم العلوم السياسية في جامعة شيكاغو) عدة صفحات ثمينة للحديث عن مظاهر الطاعة التي كان نظام حافظ الأسد (ولاحقاً نظام الابن بشار) يطالب بها مواطنيه، والتي بات السوريون يقومون بها دون أن يطلب منهم أحد ذلك.
تقول الكاتبة “لا تعتمد السلطة في سوريا على تصديق الناس لأقاويلها، بل على سلوكهم القائم على التظاهر بالتصديق. ولا يريد النظام من السوريين في الداخل اليوم سوى التظاهر كما لو أنهم يعيشون تجربة ديمقراطية، وأن يؤدوا أدوارهم التمثيلية بكفاءة في مسرحية انتخابات مسلية. هذا هو كلُّ المطلوب منهم.”
وبالفعل، ما زال هناك شريحة معتبرة من السوريين، ما زالوا مستعدين للعب دورهم في هذه التمثيلية، بالرغم من كل التغيرات “الجذرية” التي حصلت في السنوات الأخيرة، والتي أفقدت هذا “النظام” أي شرعية أخلاقية وقانونية لحكم هذه البلاد.
لكن الغالبية العظمى من السوريين يرفضون اليوم الاستمرار في مسلسل الأكاذيب والشعارات الفارغة، كما ترى المحامية والناشطة في حقوق المرأة رنا العبد.
يؤكد على ذلك ما قاله أحد السوريين الهاربين من البلاد برفقة أسرته عن سر هروبه رغم أحواله الجيدة، حيث أجاب بكل بساطة “لقد أردتُ حماية أولادي من نتائج الكذب.”