الملف النووي الإيراني وأزمة الثقة

عندما نبحث عن توصيف ما لحجم الكارثة التي نعاصرها في الشرق الأوسط لا نجد توصيفاً دقيقاً، وربما أقرب توصيف هو ذاك الذي يعبر عن وجود كمية لا تحصى من التناقضات. وأما عن التناقضات فهي ترافق أدق تفاصيل حياة الفرد من رأس الدولة لأبسط مواطنيها.

وقال الصحفي الفرنسي العراقي فرات العاني، في مقال نشره مؤخراً في موقع ميديا بارت الشهير, إن عربات نفط إيراني مهرب تباع في العراق للجيش الأميركي في وضح النهار, ما قد يشكل فضيحة ما حيث أن الأمر موثق, وأما الرسالة الواضحة فهي تؤكد أنه لا أحد بإمكانه أن يقيد أي من العصابات والميليشيات في العراق, بما فيها تلك التابعة للحرس الثوري.

ولربما لم يعرف التاريخ الحديث دولة أكثر فشلاً من الدولة العراقية التي لا يحكمها أحد. الميليشيات والعصابات تتحارب دون روادع ولم يعد ممكن السيطرة عليها, ولا يمكن تصور مخرج قريب في ظروف الصراع الراهن في الشرق الأوسط.

ولربما لم يعد العراقي معنياً لا بانتصار ايران ولا بهزيمتها, بقدر ما يحلم بحياة آمنة تحت حكم قانون ما, حيث أن “بوش” لم يُنهِ صدام حسين فقط بل حطم أسس الدولة كلها والبنى التحتية وترك الشعب منهكاً يفتقد لأبسط مقومات الحياة.

الفوضى والانفلات الأمني هي أسس الحياة العراقية اليوم, فلا شيء مستقر هناك ولا يمكن مكافحة الفساد في هكذا ظروف أصلاً, فالدولة غائبة ولا أحد متنفذ فيها, إيران تتحكم عبر مليليشياتها لا لتبني بل فقط لكي تكرس الفساد وتواجه أعداءها والقواعد الأميركية, والجميع يعلم أن كل تلك الحرب التي تدور على الأرض العراقية وغيرها هي غير مبالية بمصالح الشعب العراقي.

ولا أحد عالمياً يتحدث عن معارضة عراقية ولا عن إمكانية تطوير اختراق ما, ويبدو العراقي واقعياً فهو لا يجرب حتى لأن محاولات تحدي إيران تعني انتحاراً, وليس بإمكان العراقي وإن كان شيعياً الوقوف في وجه ميلشيات إيران أو انتقادها وتشهد على هذا سلسلة الاغتيالات التي لا تنتهي لمعارضي إيران والردود عليها أميركياً باغتيالات أخرى كتلك التي طالت قاسم سليماني.

يقال إن الإدارة الأميركية تقر بفشل سياسة بوش في العراق ولهذا فهي خشيت من تكرار التجربة وهدم الدولة السورية بالسرعة ذاتها, ولذا تصرفت بحذر في سوريا ولم تنه نظام الأسد بل استعملت معه أسلوب الضغط والخنق الاقتصادي. ولكن رغم كل الاحتياطات الأميركية لتفادي الصراع مع إيران في سوريا، ها هي سوريا ومعها لبنان تتوجهان سريعاً نحو سيناريو الدولة الفاشلة كما هي العراق، ففي لبنان سعى الوجود الإيراني لإفشال الدولة عبر تصدير رسمي لميليشيات حزب الله لها, ونجح في شل مفاصل الدولة وايصال الشعب لطريق مسدود. وأما في سوريا فإيران لم تحتج لميليشيات كما في مع العراق ولبنان بل استحوذت على كل الدولة وجيشها فكان ما عرفناه من سياسات القمع التي أدت الى المواجهة مع الشعب والكارثة السورية المعروفة.

هل كل هذا العنف تنتهجه إيران لتتمدد ولتنتزع حق تنفيذ برنامجها النووي؟

 يبدو هذا فعلاً الطموح الإيراني رغم وجود 60 مليون مواطن إيراني يعيشون تحت خط الفقر ورغم احتجاجات الشارع وهروب رؤوس أموال من البلد ورغم العقوبات الخارجية.

 وبينما تفكر الدول بالتطور داخليا قبل خوض معارك النفوذ الخارجية، كانت الرؤية الإيرانية مختلفة, حيث قررت التضحية بالشعب مقابل الدولة ومكانتها عالمياً كما فعلت الصين وروسيا, وأما هدف الحكومة الأول حالياً فهو الحصول على السلاح النووي الذي سيفرضها شريكاً على طاولة القرار الدولي.

إنها معركة نفوذ شرسة تلك التي تخوضها إيران مع العالم، وتتوقع في المرحلة الأولى منها الحصول على الطاقة النووية بحد عال كسلاح رادع.

وللوصول لهذا الهدف هي تصعد وتهدد، وعملياً ترهن الشعب السوري والعراقي واللبناني وحتى حقوق الشعب الإيراني لكي تعزز من موقفها في المفاوضات المستأنفة في فيينا،

 ورغم أن الحكومة الإيرانية تكرر بأن طموحاتها سلمية إلا أن هناك أزمة ثقة حقيقية بينها وبين الدول.

وشكل انسحاب الرئيس ترامب من المفاوضات عام 2018 أزمة في العلاقات الدولية، وبعد عودة الديمقراطيين للحكم في الولايات المتحدة قرر الرئيس بايدن عودة بلاده لطاولة المفاوضات.

 وحتماً ستطول تلك المفاوضات, ومرة أخرى يقسم هذا القرار الدول لأبعد الحدود.

 ولا شك أن المفاوضات هي البديل الأنجع عن الحرب، لكن هل يعقل أن يفاوض المجتمع الدولي إيران لكي تتنازل عن سياساتها المدمرة عبر إعطائها السلاح النووي, أو مجرد إمكانية الحصول عليه, وهو يعلم أنها لم تتوارَ عن انتهاج الحرب والقمع كوسيلة تعامل؟

 ويعتمد الرئيس “بايدن” بهذا القرار على احتمال تغيير حقيقي بالتوجه الإيراني داخلياً وخارجياً، ويتوقع تحولها لشريك، ولكن عملياً لا توجد أي بوادر أمل في أي تغيير ممكن بالسياسة الإيرانية.

ولا يسعنا إلا أن نذكر أن هذا التوجه الحليم قد يكون حقاً مضراً بالاستقرار الدولي والأمن الاستراتيجي, وهو حتماً متناقض من ناحية أخرى إذ يتزامن مع توجه دولي يمضي نحو توقيع معاهدات لنزع السلاح النووي من كل الدول عموماً وتخفيفه.