المجتمع الدولي ومسؤولية الإنقاذ

“لن أرسل ابني الى هناك ليخاطر بحياته من أجل حقوق المرأة”، بهذه العبارة خاطب جو بايدن الرئيس الأميركي أوباما عندما كان نائباً له، وكان الخلاف بينهما حاداً حول بقاء الجيش الأميركي في أفغانستان . وها هو اليوم يصبح رئيساً ويتخذ قراراً مصيرياً بسحب الجيوش الأميركية من أفغانستان، تاركاً الأفغان لمصيرهم تحت سلطة إمارة أفغانستان الإسلامية المعروفة تحت اسم طالبان.

يؤكد لنا الرئيس بايدن بهذا فكرة أن حقوق المرأة خارج حدود الولايات المتحدة هي ثانوية جداً كقضية انقراض قرود البونوبو في أفريقيا. بل لربما انقراض قرود البونوبو يستدعي تعاطفاً أكبر لكونه مرتبطاً بقضايا المناخ والبيئة.

وفي المحصلة الرسالة التي تصل للعالم هي أنه أياً كان الحاكم في الولايات المتحدة الأميركية, فمصير الشعب الأفغاني والعراقي والإيراني والسوري واليمني والليبي وغيرهم ليس ضمن أولوياته , لكن هذا القطب الأحادي قراره مصيري بالنسبة لهذه الشعوب, لكونه الأقوى ولكون قادة القوى الأخرى العظمى كالصين وروسيا لا يعتمدون القيم الإنسانية ذاتها كحد أدنى للتعامل مع شعوبها داخلياً.

اليوم تتخلى الولايات المتحدة عن نساء أفغانستان ليواجهن مصيرهن المرعب دون أي حرج, والبارحة كان هذا مصير نساء إيران اللواتي تخلى المجتمع الدولي عنهن منذ عقود وسلمهن لحكم الملالي مضحياً بنصف الشعب الإيراني لمصالح الغرب الاستراتيجية والاقتصادية, وربما غداً سيأتي دور نساء سوريا لكي يفرض عليهن مصير الأفغانيات والإيرانيات ولا شيء مستبعد.

يقول البعض إن إدارة البلاد والمجتمعات هي من الشؤون الداخلية السيادية لكل بلد, وعلى مواطني تلك البلاد أن يثوروا إن لم يعجبهم الحال ليحلوا مشاكلهم لوحدهم كما جرب الشعب السوري ولم يفلح, ولا علاقة لأي دولة من الدول ولا التحالفات بما يجري داخل الدول الأخرى. حتى أن موالي الأنظمة الديكتاتورية العسكرية كنظام الأسد وصدام حسين والقذافي وغيرهم, يعتبرون، وروسيا والصين معهم, أن تدخل الحلفاء والولايات المتحدة في صف الشعوب ضد ديكتاتورياتها فيه انتهاك لسيادة تلك الدول, وهكذا التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة يعد غير مشروع قانونياً بنظرهم . وقسم كبير من المؤثرين في الأمم المتحدة والقرار الدولي يفكرون بالطريقة ذاتها ما يقسم الرأي العام.

وفي الواقع هو صراع فكري بين مدرستين فلسفيتين، المدرسة الفكرية الأولى تستند على البند السابع من الفصل الأول في ميثاق الأمم المتحدة الذي يقول: “ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطات الداخلية ‏لدولة ما.”

تقتصر المدرسة الفكرية هذه على النظرية التقليدية للقانون الدولي العام الذي ينظر إلى القانون الدولي على أنه وظيفي, ينظم علاقات و واجبات الدول تجاه بعضها البعض.

 ويعتمد الكثير من دعاة تيار “السيادة” فكرة أن الشعوب لا يحق لها المساواة وبالتالي حسب مكان الولادة يتمتع المرء أو لا بالحقوق الإنسانية, بمعنى آخر وفق نظر دعاة هذا الفكر لا توجد مفاهيم وحقوق مشتركة وموحدة للشعوب, وبالتالي الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ليست من حق الجميع, بينما هناك شعوب لا تُحكم إلا بالعصا والنار, وهناك شعوب أخرى يحق لها احترام إنسانيتها وكرامتها.

الصراع شديد بين التيارين، لأن رواد التيار الفكري الثاني يعتمدون رؤية حداثية بالتعاطي مع القوانين الدولية, فهم ممن أسسوا ما يسمى بالقانون الدولي الإنساني وهو جزء منبثق من القانون الدولي, ويقال أيضاً عن رواد هذا الفكر أنهم اتباع فلسفة مدرسة “اللاحدودية”, منهم مؤسسو منظمات عالمية كصحفيون بلا حدود وأطباء بلا حدود وغيرهم.

ومن وجهة نظرهم هناك قبل تواجد الدول “إنسان بلا حدود”, يحق له ما يحق لغيره. هذه المدرسة الفكرية تعتبر أن الإنسانية بأسرها تحتاج في عالمنا الحديث لأن تخترق نوعاً ما الحدود السيادية القانونية. لأنه يحق لكل البشرية أن تتشارك مع بعضها البعض بمنتجات الفكر الحديث للتطور الأخلاقي والقيمي للبشرية, وانطلاقاً من هنا تسعى هذه المدرسة الفكرية لتعميم قيم إنسانية أكثر عدلاً وأقل عنفاً وتجد من الواجب أن تنصف المرأة والطفل والمسن والموظف والشاب وكل فئات المجتمع في كل مكان بلا حدود.

 وتعتبر هذه المدرسة أن التدخل العسكري لإنقاذ شعب ما من البطش والعنف الداخلي واجباً إنسانياً وأخلاقياً يعتمد على القانون الدولي أيضاً, متجاوزة بهذا مسألة السيادة عندما يتطلب الأمر, وتستمد فكرة مسؤولية الإنقاذ من قوانين موجودة في كل الشرائع البشرية, حيث في أغلب الثقافات ينص القانون الداخلي على مسؤولية إنقاذ الآخر في حال وقع هذا الآخر في خطر.

من هذا المنطلق، تعتبر هذه المدرسة أن هناك مسؤولية دولية لعدم إنقاذ شعوب أخرى تتعرض لظلم ما, وبناء على هذه النظرية استطاع دعاة هذا التيار، استنادا على اتفاقيات جنيف للعام 1949 والبروتوكول الإضافي للعام 1977 وغيرها، العمل على الدفع أممياً وقانونياً باتجاه تطوير القانون الدولي الإنساني وسن نصوص جديدة وقوانين جديدة، أهمها قانون الحماية الذي يعتبر التزاماً سياسياً عالمياً أيدته جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في مؤتمر القمة العالمي للعام 2005 من أجل معالجة أممية لمنع الإبادة الجماعية كما حصل في كوسوفو ورواندا من جرائم الحرب والتطهير العرقي وجرائم ضد الإنسانية.

ويستند مبدأ مسؤولية الحماية إلى الفرضية الأساسية القائلة بأن السيادة لدولة ما تستلزم مسؤولية حماية جميع السكان من الجرائم الوحشية الجماعية وانتهاكات حقوق الإنسان.

 ورغم تمكنهم من إحداث تطوير وتحديث في أمكنة عديدة, لم يفلح دائماً دعاة هذا التيار لرصد الدعم اللازم وإقناع الدول العظمى بالتحرك باتجاه الحماية الإنسانية في كل مكان توجد فيه انتهاكات جسيمة وربما تشكل سوريا أهم الملفات التي فشلوا فيها.

كما يحملهم كثيرون مسؤولية فشل التدخل في ليبيا التي لم تستقر بعد، ولكن لم تستوطن داعش في ليبيا كما استوطنت في سوريا، ولم يهاجر وينزح نصف الشعب الليبي وفتحت سجون القذافي، ورغم الانفلات الأمني هناك أمل في ليبيا لكنه يبدو مفقوداً في سوريا.