كان مفاجئاً في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 أن تصوت ولايات الوسط الفقيرة أو الأقل نمواً لليمين الجمهوري، بينما تصوت الولايات الغنية في الساحلين الشرقي والغربي للديمقراطيين الذين يتأرجحون بين الوسط واليسار.
كان اليمين الذي مثله المرشح الرئاسي، دونالد ترامب، مختلفاً عن أنواع اليمين التي أعطاها الحزب الجمهوري، مثل باري غولدووتر الذي نازل الرئيس ليندون جونسون في انتخابات 1964من حيث كونه يمينياً متشدداً ضد السوفيات ومعادياً لحركة الحقوق المدنية التي تزعمها مارتن لوثر كينغ، أو مثل رونالد ريغان الذي جمع التشدد ضد السوفيات مع الليبرالية الجديدة في الاقتصاد أو المحافظين الجدد في عهد جورج بوش الابن الذين جمعوا الليبرالية الجديدة مع نزعة تدخلية عالمية تريد عبر الديموقراطية واقتصاد السوق إعادة صياغة عالم ما بعد الحرب الباردة بما يتناسب مع المصالح الأميركية.
هنا، كانت النزعة الترامبية رد فعل على ربع قرن من العولمة من قبل مواطنين فقراء أومن الفئات الوسطى التي أفقرت وتراجعت اقتصادياً بفعل هجرة الشركات الأميركية للخارج نحو الصين والهند وشرق آسيا حيث الأجور القليلة والقوانين المتساهلة أو المعدومة تجاه التلوث الصناعي وحيث الضرائب الأقل بالقياس إلى الأرض الأميركية.
زاد هذا الاتجاه الأميركي قوة مع آثار الأزمة المالية-الاقتصادية التي بدأت بخريف 2008، وتبلور في اتجاه أُسمي بـ”القومية الاقتصادية” التي نادت بعودة الشركات الأميركية من الخارج وبالحمائية الجمركية تجاه البضائع الأجنبية وبفض الشراكة التجارية مع دول حوض الباسفيك التي وقع اتفاقيتها باراك أوباما وبالانسحاب من اتفاقية كيوتو للمناخ وبجعل الإنفاق الأميركي على منظمات دولية عند الحد الأدنى أو صفرياً، سواء أكانت منظمات الأمم المتحدة، مثل منظمة الصحة العالمية التي انسحب منها ترامب، أو منظمة التجارة العالمية التي تمثل النزعة العولمية بأقوى صورها والتي ظل ترامب لأربع سنوات يهدد بالانسحاب منها.
وفاز ترامب من خلال هؤلاء، وهم غالباً من الفقراء البيض أو الفئات الوسطى من البيض أي (الواسب) وتعني البروتستانت الأنجلو- ساكسون البيض من المهاجرين القدماء للعالم الجديد، الذين يكرهون السود والهسبانيول المهاجرين الآتين من أميركا الوسطى والجنوبية، ويكرهون رجال الأعمال وأصحاب البنوك في نيويورك وسان فرانسيسكو ولوس أنجلوس، ويكرهون صحفاً مثل “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست”.
ومال ترامب إلى الانسحاب من أي التزامات بوجود عسكري أميركي في الخارج، وكانت قراراته بالانسحاب من سوريا عامي 2018 و 2019، التي أحبطها البنتاغون ووكالات الاستخبارات، مؤشراً كبيراً على هذا، إضافة لعقده اتفاق الدوحة في التاسع والعشرين من شباط/فبراير 2020 مع حركة طالبان للانسحاب من أفغانستان، والتي ترددت إدارة بايدن وأعطت إشارات سلبية تجاه تنفيذ الاتفاق الذي يتضمن بدء الانسحاب الأميركي في أول الشهر القادم قبل أن تقرر الأسبوع الماضي تنفيذه رغم تحذير وليام بيرنز مدير وكالة الاستخبارات المركزية من عواقب هذا الانسحاب.
وخلال أربع سنوات، أعطى ترامب إشارات عدائية أو سلبية تجاه حلف الأطلسي/ الناتو وتجاه الاتحاد الأوروبي وكان لا يخفي سروره من الخروج البريطاني من الاتحاد، وفي هذا يشبه ترامب ماري لوبين التي تعادي الاتحاد الأوروبي وتعتبر “اليورو خنجراً في خاصرة فرنسا” هي وكل اليمين المتطرف الأوروبي الذي يعادي (بروكسل) مركز إدارة الاتحاد الأوروبي.
وهنا، ليس غريباً أن يعجب ترامب بفلاديمير بوتين، والذي يحمل بالمناسبة الكثير من النزعة الأيديولوجية اليمينية التي تمزج القومية الروسية مع المذهب الأرثودكسي، في وقت لا يخفي عداءه للصين، وكان ترامب معجباً ببنيامين نتنياهو وباليمين القومي الصهيوني، ومعجباً باليمين الهندوسي القومي الذي يحكم الهند منذ العام 2014، بينما كان عداؤه لإيران ناتجاً عن عدم قبوله بدولة لها دور إقليمي محوري في الشرق الأوسط يمكن أن تشكل ممراً للصين نحو المنطقة، أكثر من أي شيء آخ، وهو كان يرى في اتفاق أوباما مع إيران عام 2015 خطأً استراتيجياً من حيث أن أوباما قايض تفكيك البرنامج النووي الإيراني بالسماح بحرية حركة طهران في الإقليم، وبالمناسبة فإن تقارب ترامب من بعض دول الخليج يرتبط بالعداء لإيران وليس مرتبطاً بتلاقيات أيديولوجية .
بتكثيف: تظل ظاهرة دونالد ترامب ملفتة وجديرة بالدراسة وهي مازالت قوية في المجتمع الأميركي حيث نال ترامب 74 مليوناً من الأصوات الشعبية مقابل 81 مليوناً لبايدن في انتخابات رئاسيات 2020.
وفي انتخابات 2020 مازال اللون الأحمر الجمهوري في ولايات الوسط مقابل الأزرق الديمقراطي في الساحلين الشرقي والغربي.
الترامبية تكسر الكثير من تصورات اليساريين العرب والغربيين عن أن اتجاه العولمة الأميركي منذ مرحلة ما بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي هو ظاهرة يمينية، فيما نرى الآن جو بايدن ، وهو في موقع يمين الوسط ومن حزب فيه اتجاه يساري يمثله بيرني ساندرز، لديه اتجاه قوي نحو العولمة ونحو إنشاء تحالف ديمقراطي عالمي يضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ضد الدول التوتاليتارية، ويقبل بانفتاح السوق الأميركية على العالم ويرفض نزعة ترامب نحو “القومية الاقتصادية”.