الإرث الضائع في “غرفة المقاطيع”
السويداء – نورث برس
تخشى سميحة علبة (اسم مستعار لسيدة من السويداء، تبلغ 57 عاماً) أن تلقى ابنتاها سلمى ومادونا، نفس مصيرها الذي لاقته بعد أن طلقها زوجها قبل خمسة عشر عاماً، وتركها بلا سقف يأويها وبناتها، ومن دون مصدر رزق تحصّل من خلاله لقمة عيشهن.
أوصى زوجها السابق بكل ما يملك لأولاده الذكور من زوجته الثانية، حارماً ابنتيه من زوجته الأولى من أي ميراث.
وفيما تعيش “سميحة” اليوم وحيدةً في بيت مؤجّر في مدينة السويداء بمساعدة أقربائها، بعد أن خسرت حقها بـ”غرفة المقاطيع” في منزل والدها لصالح إخوتها الذكور، في حين تنتظر ابنتاها مصيراً مشابهاً لمصير والدتهن.
تقول الأم لـنورث برس إن ابنتيها المتزوجتان (مادونا 32 عاماً، وسلمى 28 عاماً)، تعانيان اليوم من ظلم زوجيهما وتتعرضان للضرب والظلم، لكنهما “خائفتين من طلب الطلاق كي لا تكرران تجربتي وتعيشان معاناتي.”
تضيف: “ليس لديهما وظيفة أو عمل أو معيل أو حتى منزل يأويهما في حال أُجبرتا على طلب الطلاق، فهما مضطرتان للبقاء في منزل زوجيهما تحت التعنيف لعدم وجود أي حماية أو دعم مادي من قبل والدهما”.
الوصية أقوى من القانون
قصة “سميحة” وابنتيها نموذج لعشرات القصص من نساء المجتمع الدرزي الذي مازال حتى اليوم يحرم المرأة من حقها في الميراث، تحت بند (الوصية) وتحت بند الأعراف والتقاليد التي تعطيها في أحسن الأحوال غرفة واحدة للسكن، مقابل حرمانها من حقها الطبيعي في الإرث.
وعلى الرغم من لجوء الأم وابنتيها إلى مرجعيات دينية في طائفة الموحدين الدروز والمحكمة المذهبية الدرزية، إلا أن الجهتين أجمعتا على أن الوصية التي أبرمها زوجها السابق قد حرمت ابنتيه من الميراث، وبالتالي لايمكن الاحتكام إلى القضاء، فالوصية الأبوية حسمت الأمر.
“غرفة المقاطيع”
قصة حرمان ابنتي سميحة من ميراث والدهما، استمرار لقصتها الأليمة مع والدها وأخوتها الذكور كما تتذكر بمرارة.
تقول: “حرموني من ميراثي وأجبروني على التوقيع على أوراق تنازلتُ بموجبها عن “غرفة المقاطيع” التي أوصى لي بها والدي في منزل العائلة بالسويداء مقابل مبلغ زهيد لا يتجاوز نصف مليون ليرة.”
ودرجت تسمية “غرفة المقاطيع” عند طائفة الموحدين الدروز، حيث يتم إبقاء غرفة من منزل الأهل للإناث اللواتي لا يبقى لهن معيل مثل المطلقة أو الأرملة التي لا تملك شيئاً، وكذلك للبنت العزباء طالما أنها لم تتزوج ولا تملك معاشاً.
وبالمقابل يكون لهذه المرأة من الغرفة حق الانتفاع فقط، وهو ما يعني بأنه لا يحق لها أن تبيعها أو تورثها لأولادها، فقط يحق لها الانتفاع بها كأن تقوم بتأجيرها أو السكن فيها وهو ما يعني حرفياً حرمانها من ميراثها الشرعي.
جذور “إقطاعية ذكورية”
في تعليقها على قصة “سميحة” ومثيلاتها من النساء الدرزيات المحرومات من الإرث، تعيد الطبيبة والناشطة الحقوقية لجين حمزة، سبب الإجحاف الحاصل بحق المرأة الدرزية في الإرث إلى طبيعة المجتمع الدرزي منذ نشأته الأولى في منطقة جبل العرب.
وتقول الناشطة التي تقيم في مدينة السويداء إن: “هذا المجتمع ذو طبيعة مجتمعية زراعية، يعتمد في حياته على ملكية الأراضي المرتبطة بمفهوم الإقطاعية الذكورية، فكان لابد من الإكثار في إنجاب الذكور للحفاظ على تلك الإقطاعيات.”

وبناءً على ذلك، ترى “حمزة” أن دور المرأة الدرزية “انحصر في مسألة الإنجاب فقط وتسجيل الأبناء على أسماء آبائهم وجعلهم يتبعون إلى عائلة الزوج.”
وتشير إلى أن: “هذا الدور كان البداية الأليمة في حرمان المرأة الدرزية من حقها في الميراث، وذلك خوفاً من انتقال أملاك العائلة إلى عائلة أخرى حين زواجها وإنجابها للأطفال.”
وتعتقد “حمزة” أن ما تعرف بغرفة المقاطيع “تمثّل إهانة لدور المرأة الدرزية عبر تطور المجتمع الدرزي، والذي كانت المرأة من خلاله أساساً متيناً وركناً حصيناً في هذا المجتمع على خلاف ما يعتقد البعض.”
الملكيات للذكور فقط!
من جهتها، توافق المحامية والناشطة النسوية مها نعيم، والتي تعمل في المحكمة المذهبية الدرزية بالسويداء على ما قالته “حمزة” من أن الوصية فيما يتعلق بالمرأة لدى طائفة الموحدين الدروز، تركز على انتقال الملكيات إلى الذكور دون الإناث.
ويعود ذلك وفقاً لـ”نعيم” إلى الموروث الاجتماعي، الذي يخاف من انتقال الملكيات من عائلة المورث إلى عائلة أخرى، أي الفتاة حيثما تتزوج.
تضيف: “يرتبط أيضاً بمفهوم حقوق النساء الدرزيات في الملكيات، وأهليتهن في التصرف، كتعرضهن للخداع من الزوج، والابتزاز والاضطهاد والضغط من قبل الزوج لنقل الملكية له.”
وأشارت إلى أن: “هذه العقلية لا يمارسها الذكور فقط تجاه بناتهن، إنما النساء اللاتي حرمن بناتهن من الإرث لصالح إخوتهن الذكور.”
مقارنة.. ومقاربة
تعقد المحامية مها نعيم مقارنة بين الإرث في القانون السوري وما يقابله لدى المحكمة الدرزية. وتقول إن الإرث في القانون السوري هو من النظام العام وتثبيت من إرادة المشرّع، فلا يملك المورّث تغييره أو تبديله.
وتشرح: “في القانون السوري، للذكر مثل حظ الانثيين في العقارات والأملاك داخل المخططات التنظيمية، وبالتساوي بين الرجل والمرأة في العقارات الأميرية (أي العقارات الزراعية وخارج المخطط التنظيمي)، ولكن ضمن حالات محددة تستحق المرأة أنصبة متساوية في الإرث مثلها مثل الذكر أو أكثر.”

لكن، الوصية لدى طائفة الموحدين الدروز هي تمليك أو تصرّف مضاف إلى ما بعد الموت، طبقاً للمحامية “نعيم”.
فـ”الوصية المطلقة حسب المادة ٣٠٧ من قانون الأحوال الشخصية في المذهب الدرزي تنص على أن تنفذ الوصية للوارث أو لغيره بالثلث أو أكثر، ما يعني أنها شاملة بكامل التركة، ويمكن التوصية بها جملةً، حتى لغير الوارث، وهي غير محددة أو مقيدة بحدود الثلث من التركة.”
“سلطان الإرادة”
تلفت المحامية في المحكمة المذهبية الدرزية إلى أن مفهوم الوصية لدى قانون الأحوال الشخصية في المذهب الدرزي هو إعمال حقيقي لمبدأ قانوني من أهم القوانين المدنية في القانون السوري، ألا وهو مبدأ “سلطان الإرادة”، أي أن الشخص حر الإرادة في عقد أي تصرف أو التزام، أو عدم عقده كيفما يشاء وبالشروط التي يراها مناسبة.
وتقول: “الآباء في المجتمع الدرزي إن طبقوا هذا النص القانوني في حق الإيصاء كانت التركة أو الميراث متساويين بين الذكور والإناث، وهذا يخالف النص وقوانين وقواعد الإرث العامة في القانون السوري العام والذي مصدره التشريع الإسلامي، للذكر مثل حظ الانثيين.”
أنواع الوصية
تقول المحامية مها نعيم إن “الوصية في المذهب الدرزي لها أشكال متعددة، فمنها الوصية المانحة، وتعني أن تأخذ المرأة إما حقوقها من الملكية في الحد الأدنى وتسمى حقوق كفاية، أو حقوق متساوية، أو حسب وصية الموصي.”
أما وصية الضرار أو الإضرار فهي تلك التي تحرم المرأة من أحقية التملك داخل الوصية. وتورد “نعيم” مثالاً عليها (أب مقتدر مالياً، حرم بناته العشر من التركة، ومنح كامل تركته لابنه الرضيع.
و”هذا النوع من الوصايا غالباً ما تقوم على المحاباة والتمييز بين الذكور والإناث، ما شكل إجحافاً كبيراً بحق المرأة الدرزية” بحسب المحامية نعيم.
أما النوع الثالث من الوصايا فهي الوصية المقيدة (أي المرتبطة بحق الانتفاع، وحق التصرف، وحق الملكية) ويندرج ضمنها ما يورّثه الآباء في المجتمع الدرزي وخاصةً “غرفة المقاطيع”.
وترى “نعيم” أن غرفة “المقاطيع ” لدى الدروز، هو عرف مخالف للنظام العام، لما يحمله من مهانة وذل وإجحاف كبيرين بحق المرأة الدرزية بالعموم.
أما الوصية المغلقة على شرط (أي المشروطة من قبل الأب) فتصح بها الوصية ويبطل الشرط إذا كان فاسداً أو باطلاً (كاشتراط الأب ضمن الوصية عدم زواج بناته).
ويعتبر هذا الشرط، كما تشرح “نعيم”، باطلاً حسب قانون الأحوال الشخصية للمذهب الدرزي، ومنه جاء اجتهاد محكمة النقض في المحكمة المذهبية الدرزية على أن تقييد الموصي لبناته بثلث التركة بامتناعهن عن الزواج مخالف للشريعة المذهبية الدرزية، ما يوجب إلغاء هذا الشرط من الوصية.
انتزاع الحق.. بالقانون
المحامية في المحكمة الدرزية ترى أن تنازل المرأة عما يحق لها من الإرث أو من الوصية لإخوتها الذكور، عبر الضغط والابتزاز العاطفي من قبل أخوتها الذكور، كرس عملية الإجحاف ضد المرأة الدرزية.

وأشارت إلى أن إبطال الإيصاء من قبل الأب تصح فقط في حالة الجنون المطبق والمتصل بالموت. وليس هناك نص قانوني لدى المذهب الدرزي، يمنع الإيصاء بسن محددة، حتى لو كان الأب طاعناً في السن وفاقداً للسمع أو البصر.
وترى المحامية مها نعيم، أن الحلول من أجل حماية حقوق المرأة في الإرث لدى الموحدين الدروز، هو إعمال نص المادة ٤٨٩ فقرة ثانية من قانون الأحوال الشخصية لدى المحكمة المذهبية الدرزية، وتنص هذه المادة على تنظيم الوصايا من قبل قاضي المذهب.
وبالرغم من أن هذه المادة غير مطبقة في المجتمع الدرزي، فمن السهولة تطبيقها في حال دفعت المرأة بذلك، حسب قول “نعيم”.
وتخلص إلى أن “الإرث وحق التملك للمرأة الدرزية من أبيها هو من الحقوق الأصيلة، حق قانوني ومصدره القانون لا يجب على المجتمع إغفاله.”
حق قانوني لا يحترمه المجتمع
المحامي والفقيه القانوني أنور حاتم، يرى في حديث لنورث برس “أن المشرّعين القانونيين في محكمة الأحوال الشخصية للمذهب الدرزي ومنذ القديم اعتبروا أن المرأة قد حصلت على حقها كاملاً حين أُعطيت مشروعية وأحقية الميراث من الآباء.”
لكن “حاتم” يشير إلى أن “عدم الالتزام من قبل المجتمع الأهلي والمحلي للدروز في تطبيق النصوص القانونية، ألحق في الكثير من الحالات الظلم والإجحاف بحق المرأة.”
بالمقابل، يلفت المحامي حاتم إلى أن “ثمّة عائلات في المجتمع الدرزي أنصفت بناتها في حق الميراث، ولكن بنسب ضئيلة مقارنة مع الحالة العامة.”
يضاهي القوانين الغربية
أما من حيث النصوص القانونية والتوصية فقد اعتبر الفقيه القانوني أن “مفهوم الوصية هي حركة متقدمة في مجال العقل البشري، حيث أعطى للموصي حق الاختيار الكامل في توريث التركة لمن يشاء، واعتبره نوعاً من الحرية المطلقة، وهو ما يضاهي القوانين المدنية لدى الغرب.”
إلا أن “حاتم” يرى أنه “لابد من إدخال تعديلات قانونية وتشريعية تكرّس حق المرأة في التملك بالقانون السوري بشكل عام وبكافة مواده حتى تأخذ المرأة حقها في منظور ومفهوم العدالة الاجتماعية.”
ويقول: “من حيث الإرث لدى طائفة الموحدين الدروز، وحسب التشريع المذهبي الدرزي والمأخوذ من روح مذهب الطائفة، ساوى التشريع بين الرجل والمرأة من حيث الحقوق الإرثية”، معتبراً ذلك غاية في العدالة الاجتماعية.
ويرى أن الوصية مرتبطة بالعقل في المفهوم التشريعي لدى الموحدين الدروز، وإن حدث خطأ في التطبيق، فالعقل ليس مسؤولاً عن ذلك (العقل والذي يعتبر قدس الأقداس بالنسبة إلى جوهر الإيمان لدى طائفة الدروز الموحدين).

وأطلق الفقيه القانوني، دعوة إلى ضرورة تعديل القوانين الإرثية بما تتناسب مع التطور لدى المجتمعات حسب الزمان والمكان “فلكل عصر قوانينه وتشريعه الخاص بما يتوافق مع حركة العصر.”
دعوة لوعي جديد
الإعلامي والناشط المدني رواد بلان يرد في حديثه لـ”نورث برس” مشكلة الإرث لدى المرأة الدرزية إلى جذور اقتصادية واجتماعية قديمة.
ويربط الأمر بفقر الدروز ومحدودية حيازاتهم الزراعية، ومن ثم الخوف من توزيع الملكيات على العائلات، فإنه يدعو اليوم إلى ما سمّاه “وعي جديد”.
ويعتبر بلان أن “الوعي القائم على أساس المعرفة والتعلم والإنتاج البشري، يؤسس لثقافة جديدة قابلة وقادرة على تغيير هذه المعايير.”
بلان أشار إلى أن المجتمع الدرزي بدأ يشهد وجود آباء يوصون لبناتهم، كما أولادهم، معتبراً ذلك نوعاً من التطور في المجتمع، لكنه قال: “الواقع السياسي والعسكري الحالي في البلاد، والخلخلة الاجتماعية الحاصلة يمنع انعكاس هذا التطور على القانون المدني”.
ويلفت الإعلامي بلان إلى ميزة تتمتع بها النساء في المجتمع الدرزي وهي نسبة التعليم العالية بينهن “أصبحت المرأة الدرزية اليوم منتجة وتعمل في الكثير من القطاعات، وبالتالي لابد من انعكاس عمل المرأة على واقعها، وإعادة النظر في انصافها بالإرث.” كما يقول.
مشيخة العقل توضّح
وفي حديث حصري لنورث برس، يقول الشيخ يوسف جربوع، شيخ عقل طائفة المسلمين الموحدين الدروز بخصوص إرث المرأة “إن النصوص الدينية لدى طائفة الموحدين الدروز والمتعلقة بالإرث لدى المرأة الدرزية الموحدة، مرتبطة بتاريخ قديم ينوف عن ألف عام.”
ويقول أيضاً إن “هذه النصوص مصدرها أئمة وعلماء المذهب الدرزي، وابتدأت على قاعدة المساواة والعدل بين الذكر والأنثى.”
ويستشهد سماحة الشيخ بنص ديني للطائفة يقول: “يساويها بنفسه (أي الرجل) وينصفها بجميع مافي يده، فإن أوجب الحال الفرقة فيما بين الزوج والزوجة فلها حكم، أي إن كان هناك تعدٍّ من قبل الزوجة على الزوج تخرج المرأة بنصف ماتملك، أما في حال تعدى الزوج على الزوجة فإنها تأخذ كل ماتملك من ملكها الخاص، إضافة إلى مايملكه الزوج، وهذا يعتبر واجب ديني يلزم اتّباعه.”
لكنه أضاف: “في الآونة الأخيرة والسنوات الماضية بات المحيط الاجتماعي يؤثر بشكل سلبي على الإرث لدى المرأة الدرزية الموحدة.”
وعلل ذلك بتأثير نمط الحياة لدى القبائل البدوية والعشائر المحيطة بالدروز في الجبل سابقا، والتي تقف في طريق توريث المرأة، وبالتالي أصبح عرفاً وتقليداً لدى المجتمع الدرزي.”
واعتبر سماحة الشيخ أن ذلك يعتبر مخالفاً للعرف الديني والنصوص الدينية.
وأشار إلى أن “الظلم الواقع على المرأة الدرزية ليس سببه الدين الدرزي وتعاليمه الدينية، وإنما يعود إلى الظروف الاجتماعية، مؤكداً أنه في قادم الأيام سيكون هناك ردود صادرة عن مشيخة العقل توضح إشكالية الإرث لدى المرأة الدرزية، وتعيد إنصافها من جديد، على الصعيدين الديني والاجتماعي.”
وبانتظار تحوّل “وعد” شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز إلى حقيقة، تبقى سميحة وابنتيها “المهددتان” بالطلاق في كل لحظة، إضافة لمئات النساء الدرزيات رهينات لأعراف مجتمعية تسلب منهن أبسط حقوقهن بميراث يحفظ كراماتهن وينصفهن في مواجهة هذا التمييز المجحف بحقهن وحق بناتهن من بعدهن.