قضيّة كرديّة أم عقدة مظلوميّة؟

ثمة من ينصح الكرد بأن لا يعرضوا قضيتهم على أنّها “مظلومية”، والإبقاء عليها قضية سياسيّة في إيهاب إنسانيّ. هذا القول على حصافته وأهميته بحاجة إلى مراجعة وإعادة ضبط وجوباً للتمييز بين المظلوميّة وبين عقدة المظلوميّة، ذلك أن ما تعرّض له الكرد من إبادات فيزيائية وأخرى ثقافيّة وسياسات صهر قومي وحملات تهجير وإنكار وجود واغتيالات سياسيّة واعتقالات متواصلة يشكّل الجزء الأساسي من الذاكرة الجمعيّة للكرد، لتشكّل وسائل العقاب هذه حاصل جمع المظلوميّة الكرديّة التي بدأت مع تشكّل الدول “القوميّة” التي هضمت الخريطة الديمغرافيّة الكرديّة تبعاً للترسيمات الكولنياليّة (سايكس – بيكو).

ثمة حاجة إلى التفريق بين المظلوميّة وبين ما اصطلح على تسميته عقدة المظلوميّة، والفرق هنا بين حالتين الأولى تعني أن يُنظر إلى الماضي القريب، وهو هنا قرابة مئة عام من يومنا هذا، بوصفه سياسات عدائيّة مستمرّة أو كما يسمّى بلغة القانون “جريمة مستمرّة” وبين عقدة المظلوميّة أي التصرّف كضحيّة تبرّر كل فعل شائن تحت غطاء المظلومية، الحالة الأولى تعني أننا نتحدث عن مظلومية لا تورّث، ليس لها جيل أبناء يتصرّفون وفق عقلية ثأريّة، بل أجيال متعاقبة تبحث عن حلول متصلة بالمساواة وحق الحياة ووقف سلسلة الجرائم المتواصلة، أمّا الحالة الثانية فتريد الاستثمار في عذابات الأسلاف لتبنيّ سرديّة تبيح ارتكاب الجرائم.

في الأصل بنيت سرديات الدول التي تحكم الكرد على أساس من المظلوميّة، تركيا على سبيل المثال ترى في نيل الكرد حقوقهم الطبيعية استمراراً لــ “جريمة” الاستيلاء على ممتلكات الدولة العثمانية وتوزيع تركتها وهذا بدوره يمثّل جوهر عقدة المظلومية التركيّة، التي تبيح ارتكاب سياسة الاضطهاد القومي والاعتقالات والابادة الثقافيّة وحتى التوسّع خارج الحدود لا سيّما في الجغرافية البشريّة الكرديّة خارج تركيا، فيما رأى بعثي العراق وسوريا كقطرين عربيين سلبا حقّهما في الوحدة العربية وأن التقسيم كان واحداً من أسباب هوان العرب وضعفهم وبالتالي فإن هذه المظلوميّة تستوجب الرد على كل المتربّصين بوحدة أراضي ما تم تقسيمه على يد الاستعمار، أما إيران فإنّ مظلوميّتها مجدولة من حبلين، حبل وراثة الإمبراطورية الفارسية التي كانت تحكم أوسع بكثير من خريطتها الحاليّة، وحبل المظلوميّة الشيعيّة التي تحوّلت إلى عقدة زحفت إلى عراق ما بعد 2003. بكلمات أخرى، عُقد المظلوميّة التي طبعت سلوك النخب الحاكمة في هذه الدول أسّست لمظلوميّة كرديّة.

للتمييز بين المظلوميّة وبين القضيّة القوميّة في سوريا، يقتضي الأمر وقف الاتهامات التي تصوّر المطالبات الراميّة إلى إيجاد حل عادل للقضيّة الكردية بأنّها مبنيّة على مظلوميّة كرديّة، في حين أن القضيّة الكرديّة بدأت قبل أن تتحوّل إلى مظلومية، أي أن الأخيرة كانت نتيجة لوجود قضيّة وليس العكس، حيث أن مطالبة الكرد بالمساواة استصحب الكثير من العداء وخوض الحكومات المتعاقبة في سياسات امتاز معظمها بالغلوّ والتطرّف القوميّ.

من ناحية أخرى، ما يزال قطبي السيطرة على المشهد السياسي السوري، النظام والائتلاف المعارض، يمارسان سياسات تشي بكل ما هو تمييزي، ما يعني أنّنا في صدّد جرائم مستمرّة، لم تنقطع منذ عقود، وما يعني حضور القضيّة الكرديّة بما هيّ قضية متكاملة تنطوي على مظلوميّة حاليّة، لا تستمد قوّة حضورها من السياسات العنصريّة السابقة إنما من تلك التي تقع كل يوم في عفرين ورأس العين/سرى كانيه؛ فهل الحديث عن مظلوميّة تحدث في هذه الأثناء  يعني أن ما يحرّك الكرد هو عقدة المظلوميّة؟!

إلى ذلك ثمة هروب متواصل عند الحديث عن قضية كرديّة، بخاصة عند التذكير بالسياسات التمييزيّة التي تعرّض لها كرد سوريا، إذ يفضل كثيرون تمييع النقاش الضروري في هذا الصدد بالقول إن كل السوريين تعرّضوا لاضطهاد دون تفريق، أو أن النظام وزّع ظلمه بعدالة متناهية على كل السوريين، أو أن الحديث عن مظلوميّة كردية يفتح الطريق للخوض في الحديث عن مظلوميات أخرى تعرّضت لها غير جماعة أهليّة سوريّة. ولكن هذه الأقوال على صحّتها تبقى ضرباً من ضروب الهروب من مناقشات، فحلول متخيّلة، لواحدة من قضايانا الوطنيّة، بالتالي تأجليها وإبعادها عن حلقات النقاش العام.

في صعيد آخر، لا يعني استذكار الضحايا، أو الارتكابات والانتهاكات، صناعة للمظلوميّة طالما أنّ الظلم مستمر، وطالما أنّه لا يتمّ استثمارها لغايات تتمثّل باضطهاد الآخرين، وإذا كانت عقدة المظلوميّة دفعت النازيين للثأر من اليهود، أو دفعت صدام حسين للجوء إلى سياسة “الحل الأخير” تجاه كرد العراق، ودفعت تركيا لاحتلال مناطق عفرين ورأس العين، فإنّنا لا نكاد نعثر على ما يشي باضطهاد كرد سوريا أو كرد العراق للآخرين انطلاقاً من مظلومة تاريخية.

صفوة القول، هناك قضيّة كرديّة قد يكون تكرار الحديث عنها (بخاصّة في ظل الدمار والقتل والتهجير الذي يحدث في سوريا) سبباً في نفور نخب سوريّة من هذه المسألة وابتسارها في كلمة “مظلوميّة”، في حين أن الأمر الأخطر هو ما يدور في النقاشات الفرعيّة بين تلك النخب واعتبار أن كل حق طبيعي كالإدارة الذاتية أو التعلّم أو الدفاع عن النفس بأنّها مسائل ناجمة عن عقدة المظلوميّة، بدل اعتبارها شكلاً من أشكال حلّ القضيّة الكرديّة وطيّ ملف المظلوميّة مرّة وإلى الأبد.