مواطنون لا رعايا

“مواطنون لا رعايا” هو عنوان كتاب شهير كتبه المفكر الإسلامي خالد محمد خالد، في سياق دفاعه عن قيم الحرية والعدالة في الإسلام، وفيه تحدث عن إمكانية العبور بالوعي الإسلامي من دولة الخلافة والرعية إلى دولة الحقوق والمواطنة.

ولم يسلم خالد محمد خالد بالطبع من هجوم الناقدين واتهامهم، ولم يشفع له قلمه الساحر الذي رسم أروع صورة للرجال حول الرسول، وإنسانيات محمد وخلفاء الرسول ولا كتابه الفريد بين يدي عمر، ولا حتى تاريخه الطويل في البحث عن الحقيقة وركوب أمواج الهول المتلاطم والسفر من أفق إلى أفق حتى استقر عند الإسلام التنويري المتصالح مع العلم والنور.

والكتاب في العمق ليس إلا صدى من آثار صيحة المفكر المصري الهائل علي عبد الرازق الذي كتب كتابه الثوري الإسلام ونظام الحكم، وقصد فيه إلى وجوب التحول إلى الدولة الحديثة واختيار الملائم من الفقه الإسلامي للحياة، وتطوير وعينا بالحياة لبناء مجتمع المواطنة المساواة بعيداً عن فتاوى التمييز بين القوميات والديانات، وبعيداً عن فتاوى الخضوع للمتغلبين ووجوب طاعتهم ولو أكلوا أموالكم وضربوا أبشاركم.

وتشتد الحاجة للوعي بهذه الدراسات اليوم للتأكيد أننا لا نبدأ من نقطة الصفر، فهذه المطالب التي ننادي بها من دولة الحرية والمواطنة والعدالة، وإخاء الأديان وكرامة الإنسان هي مطالب نادى بها جيل النهضة في كل الأمم، وعلى صدى هذه الصيحات استيقظت أوروبا من ركام القرون، وهي الصيحات نفسها التي نادى بها قادة الفكر الإسلامي منذ فجر النهضة قبل أكثر من مائة عام على يد الإمام المجدد محمد عبده وجمال الدين الأفغاني.

والسؤال الرئيس في الكتاب، هل نحن رعايا؟ أم موطنون؟ وهل شكل حياتنا وحقوقنا هو ما ترسمه إرادة السلطان المتغلب الذي هو ظل الله في الأرض وسيفه على خلقه، فما أعطانا فمن فضله وكرمه وما منعنا فبذنوبنا وتقصيرنا، ولا يسعنا إلا الاستغفار ومحاسبة النفس والدعاء بأن يحنن الله قلوبهم علينا…. أم أننا مواطنون شركاء في أوطاننا نملك أن نكتب أقدارنا وحقوقنا ومطالبنا بعين بصيرة، ونطالب بحقنا وليس بمكرمة السلطان.

والرعية فقه سلطاني، يستخدم المصطلح النبوي الكريم كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، ولكنه يفسره تفسيراً سيئاً، فالحديث لا يتحدث عن سلطان ورعية ولا عن مالك وأشياء، بل يتحدث عن المساواة بين الشعب في التزامهم ومسؤوليتهم، والحق والواجب، وهو يكرس في نفس المسلم ثقافة الإحساس بالمواطنة، والمساواة بين الناس في المسؤولية والواجب، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.

في سوريا مارس الحكم الاشتراكي التقدمي الثوري التحرري وعلى مدى ستين عاماً كل أشكال تدجين المجتمع وتحويله إلى رعايا ينتظرون الإحسان، يجود عليهم الرئيس بالمكرمة، فصحة الشعب مكرمة من سيادته وتعلميهم كذلك، والانترنت والكهرباء والماء والطعام والشراب كلها باتت مكرمة يجود بها سيادته بما طبع عليه من الخلق النبيل والشرف الأصيل، أما نحن المواطنون البائسون فلا يحق لنا حتى المطالبة بهذه الحقوق لأنها تقع في تهمة إضعاف الشعور القومي ووهن نفسية الأمة، وما يتبعها من خيانة للوطن وتشويه لصورة السعادة الغامرة التي يهنأ بها الشعب تحت القيادة الرشيدة، ولعل أوضح صورة لسياسة الرعية هو ما تعودت الشعوب المغلوبة على تسميته بالمكرمة من صاحب السيادة.

حتى الفوز بالمناصب الدنيا أو العليا فهو ليس إلا ثقة من القيادة بالناس وحين يتوالى المهنئون فإنهم لا يشيرون إلى كفاءة المرشح ولا خبرته ولا جهده ولا عناءه، بل تنصب التهنئة على ثقة القيادة، ويكون الدعاء والرجاء هو أن يديم الله تعالى علينا ثقة القيادة الحكيمة، وأن يديم عنايتها وعينها الرحيمة على رعاياها البائسين.

في الواقع ومع أن أكثر من استخدم كلمة الراعي والرعية هم الخلفاء الراشدون ولكنهم لم يتجاوزوا السياق الاصطلاحي للكلمة وكان المواطن في أيامهم يستطيع بوضوح أن يحاور ويناقش ويطالب بحقه ويعترض على الخليفة ويحاكمه وكان على الخليفة أن يعتذر ويقول أصابت امرأة وأخطأ عمر، وأن يتم تصحيح التوجهات وفق خيارات الناس ومطالبهم وحاجاتهم، وقد سجل التاريخ للأربعة الراشدين أنهم لم يجمعوا ثروة ولم يتخذوا قصوراً ولم يورثوا الحكم في أولادهم، وللأسف فإن هذه السياسة الرشيدة لم تتكرر فيما بعد إلا أياماً نادرة، حيث تحول الخلفاء إلى ملوك، سلطانهم ظل الله في الأرض، وإرادتهم إلهام من العليم الحكيم، وسياطهم عذاب من الله يضعه ويرفعه، ومن خرج عن الطاعة قيد شبر لقي الله مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله!!

لقد حان الوقت لندرك أن الإنسان بات حراً في اختياره اليوم، ولم يعد لأي أحد في الأرض أن يدعي نسباً في السماء، لقد اعترفت دول العالم جميعاً بأن حق اختيار الحاكم وعزله هو حق الناس، وأن الله لم يكتب في قرآنه ولا في سنة نبيه اسم خليفة واحد يرث النبوة، بل هي الشورى والرأي، وسواد الناس الأعظم.

كان أوضح وعي برسالة الإسلام في بناء ثقافة المواطنة لا ثقافة الرعية هو موقف أبي بكر الصديق الرائع يوم خلافة النبي الكريم حيث أعلن بوضوح عبارته الخالدة: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.


إنه أوضح إعلان أن المطلوب التحول من ثقافة الأشخاص إلى المؤسسات، ومن الرعية إلى المواطنة، ومن الأتباع إلى الأحرار، ومن الراعي والرعية إلى الدولة والمواطن، وكانت الكلمة إيذاناً بوجوب تحمل الناس لمسؤولياتهم في بناء مستقبلهم واختيار حكامهم ومساءلتهم ومحاسبتهم وتغييرهم، دون أن يتهموا في ذلك بالتمرد على الدين.

في حوار مع صديق من تيار أمة النص، كان ينكر بشدة روايات السلف عن الشورى التي وقعت في سقيفة بني ساعدة، وكان يقول أنا لا أصدق أن محمداً رحل من الدنيا دون أن يسمي خليفة، فلو كان لديك دجاج أو غنم وأردت أن تسافر فإنك دون شك ستوصي بهم من يهتم لأمرهم، فكيف نتصور أن رسول الله ترك الأمة كلها دون وصية، ولم يسمِّ لهم إماماً؟.

قلت له يا صاحبي.. إن رسول الله لم يترك بعده غنماً ولا دجاجاً، لقد ترك وراءه رجالاً يحملون المسؤولية وقد عهد إليهم بتغيير مجرى التاريخ.

مواطنون.. يملكون إرادة ويقيناً يشاركون في بناء أوطانهم ببصيرة ويقين وليسوا رعايا يلتمسون عطف الحاكم وإحسانه، وإذا أكل أموالهم وجحد حقوقهم عكفوا على محراب التوبة يندبون ويبكون ذلك بما كسبت أيدينا، ولعل الله يعطف قلب مولانا علينا. إنها ثقافة بلهاء تلك التي تقتل في الإنسان الإرادة والمبادرة وتحول الناس إلى قطيع من الرعايا لا يملكون إرادة ولا قراراً ولا مساواة.

الثقافة التي يحتاجها الجيل الجديد هي ثقافة المواطنة ثقافة المساواة ثقافة الوطن الذي يتشارك فيه كل أبنائه شركاء لا أجراء، ومواطنون لا رعايا، لا يعلو فيه عرق على عرق، ولا غني على فقير، ولا عربي على أعجمي، ولا دين على دين، ولا شمال على جنوب، ولا شرق على غرب، في وطن تنزع فيه الألقاب السماوية عن الجميع، وتمنح الألقاب وفق الكفاءة والخدمة والموهبة، ويتساوى فيه الحاكم والناس، لا تحتاج فيه الأمة إلى حاكم تاريخي أو استثنائي بل مدير يقوم بخدمة الناس زمناً ثم ينصرف ويأتي من يستأنف من بعده بناء الحياة.