ماذا في حقيبة فرنسا لشمال شرق سوريا؟

قبل أن تحلّ فرنسا دولة منتدِبة، عقب هزيمة الدولة العثمانية، حصل انقسامٌ في باريس بين فريقٍ يستعجل السيطرة على سوريا، وآخر لا يرى في هذه البلاد سوى كونها “بضعة هكتارات غير مزروعة”، ودياراً “لحفنة من اللصوص المتوحّشين”، ربما تقاطعت هذه الآراء والرؤى القديمة وغير المتحمّسة لاستعمار سوريا، مع رأي الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الذي لم يرَ في سوريا سوى أنها “رمال ودماء”، ولكن وإزاء هذا الرأي الفرنسيّ الحاد، كان هناك رأيٌ يدمج بين “الأخلاقي” وبين المنفعي، فيما يخص استعمار سوريا، حيث شدّد رسميون فرنسيون، على وجوب “إنقاذ ملايين البشر من الموت على يد مرتزقة السلطان الأحمر (عبدالحميد الثاني)”، ولم تخلو المطامح الفرنسية من الرغبة في الاستفادة من موارد البلاد، عبر تجديد خصوبة الأراضي الزراعية، من خلال إعادة اكتشاف أقنية الرّي الرومانية القديمة، وصولاً للاستفادة من النباتات العطرية الداخلة في صناعات العطور، وانتهاءً بالنفط الذي ذهبت آراء إلى توافره في سوريا، والتي كانت تضمّ ولاية الموصل في الخرائط الأولى، التي جرى الاتفاق عليها بين سايكس وبيكو.

عمدت فرنسا في سنوات حكمها سياسات تجريبية صرفة، فقامت بتقسيم سوريا إلى دويلات، حلب ودمشق والعلويين، ثم بعد شوط من الفشل، قامت بالإعلان عن اتحاد فدرالي بين الدويلات السورية، وبعد طول عناد وافقت على اعتبار سوريا كياناً سياسياً موحّداً، وإذا كنّا في سياق تشريح المنهج الفرنسي في سوريا فإن الملاحظة الأبرز، تبقى مسألة عدم تيقّن فرنسا من أن سوريا تصلح أن تكون كياناً واحداً؛ نظراً إلى التعدّد الإثني والديني، وأن “وحدة سوريا مجرّد اختراع عربيّ قوميّ، وبالتالي فإنها تمثّل عصبيّة إسلاميّة اصطنعها البريطانيون، لضرب مصالح فرنسا في الشرق الأوسط.”

 جلاء القوات عن سوريا ساهم في قيام علاقة متوازنة حيناً ومضطربةً أحياناً كثيرة بين البلدين، ولم يخفَ التزام فرنسا بالمسائل التي تخصّ سوريا ولبنان، وإذا كانت العلاقة بين البلدين قد تحسّنت مع مشاركة الرئيس الفرنسي الراحل، جاك شيراك، في تشييع الرئيس السوري، حافظ الأسد عام 2000، وهي المشاركة الوحيدة لزعيم غربي في هذه المناسبة. لا حقاً، توسّمت باريس خيراً بالإعلانات الحكومية السورية، التي تحدّثت عن الإصلاح والتغيير، والتي بدت فيما بعد، أقرب إلى البروباغندا الفارغة منها إلى منهج إصلاحي جدّي.  ولتعود العلاقة إلى مزيد من التعقيد على هدي اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، ومع انطلاق حركة الاحتجاجات في سوريا عام 2011، بدت باريس أكثر ميلاً للتغيير، وتضاعفت مطالباتها برحيل الأسد، مع اتخاذ النظام السوري المنحى العنفي مساراً أوحد في معالجة الأزمة، ومن ثمّ استخدام الأسلحة الكيماوية، حيث شاركت عبر طلعات جويّة محدودة، بالإغارة على العديد من المنشآت الكيماوية السورية. زاد من الأعباء على سياسة فرنسا في سوريا وجعلها أكثر تدخّلية، بروز تنظيم داعش الإرهابي، وعثور باريس رفقة التحالف الدولي على حلفاء محليين، متمثّلين بوحدات حماية الشعب، وقسد لاحقاً، ما جعل فرنسا تتصدّر الدول الأوربية في الحرب على داعش، وربّما عُدت ممثّلتها في هذا الصدد،  أمّا الأمر الذي زاد من حماسة فرنسا في محاربة داعش؛ أنّها غالباً ما تكون في قائمة الدول التي تستهدفها التنظيمات الإرهابية.

ومن المفارقات أن منطقة شرق الفرات والجزيرة العليا، التي لم تكن جزءاً من سوريا التي أولتها فرنسا الاهتمام البالغ، كما هو الحال في الشريط الساحلي ودمشق وحلب إبان فترة استعمارها، غدت المنطقة المفضلّة لديها، في هذه الأثناء، وأنّها تصلح لأن تكون القاعدة الأمثل للحد من السياسات التركية التدخّلية المستقوية بالجماعات المتطرّفة، والتي يمكن لأنقرة إعادة استعمالها في غير مكان وزمان، وبما يضرّ بالمصالح الفرنسيّة كما حصل في ليبيا، إلى ذلك تمثّل منطقة شرق الفرات قاعدة اجتماعية وسياسية وعسكرية لممارسة الضغط على نظام دمشق، وبالتالي تحقيق عوائد مرتبطة بتغيير سلوك النظام.

يمكن فهم الإصرار الفرنسي، من خلال كمية الزيارات الرسمية التي قامت بها إلى شمال وشرق سوريا، وفتح أبواب الإليزيه أمام قسد ووحدات حماية الشعب، وإبداء الاحترام لحلفائها على الأرض، رغم ما أبدته الولايات المتحدة من جدّية في مسألة الانسحاب والحرب الكلامية بين الرئيس الفرنسي، ماكرون، ونظيره الأميركي، ترامب، إبان إعلان الأخير الرغبة في الانسحاب من سوريا، بل إنّه سخر عبر تغريدة من المشاعر الفرنسية الساخطة على قصة الانسحاب بقوله “…من يريد حماية الكرد سيكون جيداً لي، سواء أكانت روسيا أو الصين أو نابليون بونابرت..”.

مثّل قرار الانسحاب أكثر اللحظات حرجاً بالنسبة لباريس، التي ربطت بشكل لا يدع مجالاً للشك بين بقائها في سوريا، وبين بقاء الولايات المتحدة، وبعيداً عن التصريحات في هذا الشأن، كان لكاتب هذه السطور لقاءات مع رسميين فرنسيين، رفقة مجموعة نشطاء سوريين، في مبنيي الخارجية الفرنسية (كي دورسيه) والإليزيه، اللذين أكّدا على أن فرنسا لن يكون أمامها من حل، سوى مغادرة شمال شرق سوريا، حال مغادرة القوات الأميركية.

ساهمت فرنسا زمن الهجرة المليونية لكرد العراق، في استصدار قرار مجلس الأمن 688، القاضي بتأمين ملاذ آمن لكرد العراق، يمتد على طول خط العرض 36، وبجهود عظيمة من قبل شخصيات مؤثرة في المشهد الفرنسي، كعقيلة الرئيس الفرنسي، دانيال ميتران وبرنار كوشنير وآخرين، إلّا أن الدور الفرنسي، آنذاك، يختلف عمّا تشهده منطقة شمال وشرق سوريا، المختلطة إثنياً، والتي تواجه عداءً وسياسات تركية متصلّبة، وضبابية في الموقف الأميركي رغم تحوّله الإيجابي، وهذه المرّة، قد تكون مهمّة فرنسا متركّزة على ثلاثة مناحي: ملف محاربة داعش والنظر مليّاً في ملف العائلات الفرنسية العالقة في المخيّمات، ومواصلة الضغط على نظام دمشق، ومحاولة تخفيض كلفة التدخّلات التركية في شمال شرق سوريا.

ثمة دلائل على إمكانية مساهمة فرنسا في تعويم إدارة شمال وشرق سوريا، عبر افتتاح مكتب تمثيل دبلوماسي، وبطبيعة الحال، سيمثّل مثل هذا التصرّف تحدّياً للحكومة التركية، وتصعيداً في العلاقة الحرجة بين البلدين، وفي مطلق الأحوال ستبقى مسألة “الاعتراف” الدبلوماسي، أسيرة الموقف الأميركي القادم، حيث لا يمكن قراءة مواقف باريس، بمعزل عمّا تسعى إليه واشنطن، إلّا إذا كنّا في سياق السياسات التجريبية، التي خاضت فيها فرنسا زمن الانتداب.