تل كوجر بديلاً عن سيمالكا؟

تسعى واشنطن إلى الاستثمار في علاقة متوازنة مع الأطراف السياسيّة الكردية، انطلاقاً من الحدود العراقيّة-الإيرانيّة شرقاً، وصولاً إلى شاطئ الفرات الشرقي، إلّا أن الاستثمار في هذا القوس البشري الممتد على أجزاء من حدود أربعة دول، العراق وسوريا وإيران وتركيا، يتطلّب وئاماً كردياً وعلاقات حزبيّة كردستانيّة متزنة، وهو الموضوع الذي يبدو صعب التحقّق بالنظر إلى تدخل القوى الإقليمية في أحوال الكرد وسياساتهم الداخلية ويزيد من حالة الاستقطاب الحاد والانفعال الدائمين بناءً على حسابات إيديولوجيّة وأخرى تتعلّق بالتشبيك الاقتصادي مع الدول الإقليمية.

 كان سعي الولايات المتحدة من الحوار الكردي السوري، هو إرساء شكل من أشكال التفاهم على جانبي دجلة، بين القامشلي وأربيل، أي أن الغاية من الحوار كان تشكيل جسر قومي بمقدوره تحمّل الضغوط التي تمارسها أنقرة على المناطق الكردية في سوريا، وقطع الطريق أمام المزاعم التركية التي لا تتوقّف، كما أنّ الاتفاق قد يؤمّن ممرّاً ومجالاً حيوياً في مواجهة الحصار الذي يحيق بشمال شرقي سوريا، ويقلل من تداعياته وبما يؤمّن طريقاً مستقرّاً للإمداد العسكري الذي تسعى قوات التحالف المحافظة عليه طيلة فترة بقائها، إلّا أن الحوار الكردي السوري المارثونيّ وما قد يُبنى على نتائجه لاحقاً من تفاهم بين القامشلي وأربيل بات متعثّراً، ولم يعد يحمل الجدّية المطلوبة، وفي حال استمرّ التباطؤ والمماطلة في إنجاز شيء على الأرض قد تجنح الولايات المتحدة إلى الإقلاع عن الفكرة برمتها واللجوء إلى سياسات تعزز دور الإدارة الذاتية وهيكلها الإداري والتخفيف من المظاهر الإيديولوجية فيها، لكن هذا الاحتمال يتطلّب مرونة قصوى من جانب الإدارة الذاتية، بالإضافة إلى توسيع الفريق الحاكم ليشمل تيارات وشخصيات من خارج مظّلة الإدارة الحاليّة، وبهذه الطريقة يمكن أن تتراجع واشنطن عن رعاية اتفاق كردي يبدو أن طرفيه على جانبي دجلة غير قادرين على تنفيذه.

وثمة استفادة على جانبي دجلة من عمليات التبادل التجاري عبر معبر سيمالكا غير الرسميّ، وإن كان النشاط دون المأمول، إلّا أن المعبر يمثّل الطريق الوحيد الذي لا يثير حفيظة الولايات المتحدة وروسيا، فوق أنّه يحمل صبغة قومية بالنسبة للكرد على الضفّتين ويمنحهم شيئاً من الخصوصية التي يتوقون إلى التحلّي بها، إلّا أن المعبر مهدّد بأن يخفّ نشاطه الاقتصادي حال توقّف عمليات بيع نفط شمال شرقي سوريا عبر الإقليم، واستبدال معبر سيمالكا بمعبر تل كوجر (اليعربيّة) الذي يعتبر ثاني أكبر المعابر بين سوريا والعراق، وفي حال سهّلت الولايات المتحدة مهمّة التعاون التجاري بين شمال شرقي سوريا والحكومة العراقيّة، فإنّنا سنشهد مرحلة تحوّل معبر سيمالكا “الكردي” إلى معبر للشؤون الإنسانيّة وتنقّل الأفراد وتبادل الزيارات.

الاحتمال الأرجح هو أن يفعّل معبر تل كوجر في الفترة المقبلة، فعلى  الرغم من توافر وتنوّع الثروات في شمال شرقي سوريا، إلّا أنّ المنطقة باتت تنوء تحت ثقل انهيار سعر صرف الليرة وغلاء الأسعار وشحّ المواد الأساسية، فضلاً عن أنّ العقوبات المفروضة على دمشق بموجب قانون “قيصر”، تحتّم على الإدارة والتجّار المرتبطين بها توخي الحذر كي لا يشملهم القانون، وبالتالي الوصول الآمن إلى سوق تصريف فائض الناتج الزراعي، واستيراد معدّات تكرير النفط وإصلاح أعطال الآبار والمواد اللوجستية المتعلقة بصناعة النفط، لكن الأمر برمته معقود على المصالح الأميركية ومدى رغبة واشنطن في البقاء في المنطقة وبالتالي تنميتها وجعلها الشكل المتخيّل لسوريا القادمة، لكن هذه المهمّة المتعبة بحاجة إلى مصالح أميركية جدّية في سوريا تتجاوز مسألة القضاء على تنظيم داعش، كما أنّ إحياء معبر تل كوجر الواقع على خط M4  يتطلّب موافقة روسيا والصين اللتين أوقفتا في وقت سابق عمل المعابر مع العراق وتركيا مستخدمتين حق الفيتو في مواجهة قرار يسمح باستخدام المعابر مع تركيا والعراق لمدّة عام.

وصحيح أن عملية الاعتماد على معبر تل كوجر قد تضفي شيئاً من الشرعية على عمل الإدارة الذاتية، وتقوية مركز الولايات المتحدة في شمال شرقي سوريا، وتنمية اقتصاد منطقة قد تتحوّل إلى قاطرة التغيير التي تطمح إليها واشنطن، إلّا أنه سيعني أيضاً إمكانية تراجع المد القومي الذي سعى إليه الكرد في سوريا والعراق.

وخلال السنوات الماضية جرى الحديث عن إمكانية أن تصلح المنافع الاقتصادية العداء الإيديولوجي. جرى الحديث عن إمكانية اجتراح تركيا تجربة تعاطيها مع كردستان العراق فيما خصّ التعامل مع الإدارة الذاتية، وإمكانية أن تقرّب المنافع الاقتصادية المتوقعة بين كردستان العراق وشرق الفرات، وإمكانية أن يصلح الاقتصاد ما أفسدته السياسة، إلّا أنّ شيئاً من ذلك لم يتحقّق. و في هذه الأثناء تبدأ مسألة التكهّن بإمكانية ربط شمال شرقي سوريا بجمهورية العراق عبر معبر تل كوجر، وهذا واحد من الاحتمالات حال تعثّر السياسة الأميركية الرامية إلى التوفيق بين الأطراف الكردية على جانبي دجلة، وبحكم التجارب القصيرة لحكم الأطراف الكردستانية فإنّ “الواقعية” باتت تعني أن المنافع الاقتصادية قد تحلّ مكان جواذب القومية وشعاراتها.