“البلاء الأيوبي” و”الجزيرة الشاميّة”

على سطحيتها ورذالتها، جرفت “الدولة الوطنية”، وهي الدولة القومية الاحتيالية في عموم الشرق الأوسط، معها طبقة فكرية موازية. قد يصدف أن يخرج من هذه الطبقة من يقف في وجه النظام السائد، لكن يبقى ما بينهما من الاتفاق ليس قليلاً، وفيه من التلاقي لدرجة تشويه مفهوم المعارضة نفسها في بلاد الاستبداد. هذه الإسهامات المنتجة على شكل دراسات وكتب، على أيدي أكاديميين، تدخل في سياق إما لتوفير مبررات لاستدامة الواقع الحالي في إطاره الهوياتي، أو الدعوة إلى تغييره. لذلك، فإن نقد الظواهر البحثية جزء صلب من السعي لخلخلة أركان الإقصاء، لأنه في أي دولة كانت، سواء أكانت الفئة الحاكمة عصابة أم طبقة، فإنها تستند إلى جملة من الرؤى المصنّعة في مختبرات السلطة، ومن بينها توسيع حدود جغرافية الدولة الفئوية وإيجاد جذور ميتة لها في التاريخ. في المحصلة، هناك آلة أكاديمية حيادية في الظاهر، متواطئة في الباطن، توفر “وظائف حميدة” لدولة الاستبداد.  

ويرتكب رهط من الكتاب والباحثين، الملتصقين بشكل عضوي بنموذج الدولة القومية الأحادية، اعتداءات فجّة على كل مسلمات علوم التاريخ والجغرافية والاجتماع، في سياق أطروحات إشكالية لا تحسمها دراسة واحدة مهما كانت عميقة في سبر الظاهرة محل الدراسة. ومثال ذلك جوانب من كتاب الدكتور منذر الحايك “العصر الأيوبي.. قرن من الصراعات الداخلية”، الصادر عن دار صفحات السورية عام 2011.

يوحي العنوان وكأنّ الحقبة الأيوبية شذوذ بين روائع سابقة ولاحقة في الحكم، وشوكة بين ورود سقتها، ما يسميه الحايك في تكرار ممل بـ”الحضارة العربية الإسلامية”، في محاكاة أكاديمية لأطروحات سياسية إلغائية. فهو بهذا التكريس البحثي يكرر كل بضعة سطور التصويب على التنوع والتعدد الاجتماعي في هذا المشرق المتوسطي والجنوب القفقاسي والقزويني وقوس زاغروس الجبلي وامتدادات طوروس الجنوبية، حيث أن المدارس القومية في سوريا والعراق تحديداً، لم تتحرر من مركزية “حرب الفتوحات” في بناء أيديولوجيا سياسية، لذلك تجد العلمانية الأكاديمية متلهفة لـ”الحضارة العربية الإسلامية”، وهي بذلك لا يمكن أن تنجح في بناء رؤيتها الخاصة، ولا يمكن سوى أن تكون جمهوراً ينتصر لـ”حروب الردّة”، ذلك أن سياقها المعرفي التاريخي ينطلق من تلك الحقبة حتى لو أنكرتها لفظاً ونفرت منها شعوراً. إذ لا سبيل لطرد مساهمات السلالات غير العربية في هذه الإدارات التاريخية المتشابهة في المضمون السلالي، سوى بإحالتها إلى هذه الصيغة التي يعود ظهورها ليس إلى الدكتور الحايك أو أساتذته، إنما إلى بدايات النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين كان دمج العروبة والإسلام صيغة لتأسيس الانفصال عن العثمانية، بتغطية دعم بريطاني وصل إلى حد توزيع منشورات بين سكان الشام عن أن جنود العثمانية لا يصومون في الحرب وأنّ الإسلام يجب أن يسود بهمّة قوات الشريف حسين المتجهة آنذاك صوب دمشق على ظهور الجمال.

على أنّ من الابتكارات الخاصة بالدكتور الحايك نحته مصطلحاً لم تعهده الجغرافيا والتاريخ والأكاديميا، وهو الجزيرة الشامية، قاصداً بها ما يعرف تاريخياً، وحتى اليوم، بـ”بلاد الجزيرة”. وفي نهاية الكتاب، أرفق الحايك خريطة تحت عنوان “مصور بلدان الشام والجزيرة الشامية” وفيها كل قصبات الجزيرة، بما فيها ميافارقين وآمد وخلاط، والأخيرة تقع شمال بحيرة وان، وكانت حتى دخولها تحت حكم الإسلام عاصمة بلاد أرمينيا وبقيت كذلك قروناً لاحقة. لدى البحث في كتب أوثق الجغرافيين في العصر الوسيط وحتى نهاية العثمانية في الشام عام 1918، وحتى تأسيس سوريا لاحقاً، كان حد بلاد الشام هو غرب الفرات، ولم يتجاوز يوماً شرق الفرات في خرائط الجغرافيين والمؤرخين الذين ينقل عنهم الحايك جلّ مصادر كتابه عن الأيوبيين.

والواقع لا وضوح في سبب دمج المؤلف إقليم الجزيرة بالشام، إلا إذا كان يقرأ التاريخ من موقع محل قيد نفوسه حالياً. فلم يخالف أي من الجغرافيين لاحقاً ما حدده الأصطخري في المسالك والممالك وقوله : “وقد سكن طوائف من العرب من ربيعة ومضر الجزيرة حتى صارت لهم دياراً ومراعي، فلم نذكر الجزيرة في ديار العرب، لأن نزولهم بها ـ وهى ديار فارس والروم ـ في أضعاف قرى معمورة ومدن لها أعمال عريضة، فنزلوا على حكم فارس والروم، حتى أن بعضهم تنصّر ودان بدين الروم مثل تغلب من ربيعة بأرض الجزيرة، وغسّان وبهراء وتنوخ من اليمن بأرض الشام”. وقد التزم الأصطخري بمن قبله أيضاً في عد الجزيرة بلاداً مستقلة عن الشام والعراق وما جاورها. وبما أنّ مرض المنطقة الحالي، هو الانعزالية والتغلّبية والاستيلائية، فإن ما دبجه الحايك في كتابه مادة تغذّي العقلية الإلغائية من حيث النتيجة، حتى لو اقتصر الأمر على الخريطة وحدها، لأن هذا التربيط بحبال القومية بين البلادَيْن يحيل كل من يعيش في الجزيرة من الكرد والسريان والأرمن، جزءاً من البلاد الشامية المحكومة من دمشق، والمهلهلة من الإرهاق بسبب النزعة الإلغائية المتجذرة في البلاد منذ مطلع القرن العشرين حين لم تكن هناك دولة سوى التي عاصمتها الآستانة/القسطنطينية.

وغير ذلك، فإن متن كتاب الحايك فيه من المعلومات ما يغني الباحث عن العودة لأصول المراجع التاريخية، وفيه خلاصات غنية عن تعاقب الحكام ومرامي سياسات دويلات المدن التي ازدهرت في الفترة الأيوبية، وقراءة متمكنة في سبر أغوار شخصيات هذه الحقبة. وفي أكثر من موضع لم تنطلِ عليه بعض من تلفيقات ابن الأثير الجزري، الذي بقي حانقاً على البيت الأيوبي وعلى ولائه للأتابك الزنكية في مواضع من كتابه الكامل، وأنصفهم في مواضع.

ويستحق نتاج محبوك بشغف مثل كتاب الحايك أن يقدم بطريقة أفضل لدعم التعددية والتعايش وليس الأحادية. التعددية بالمعنى السياسي والاجتماعي والثقافي، وليس فقط مفهوم السلطة للتعددية في بلاد هذا الشرق، بل أن تترك الأقوام التي تتحدث بلغات أخرى على قيد الحياة.

على أنّ ما أفسد كتاب “العصر الأيوبي” ليس هذا التغافل من قبل الحايك فيما ذكر أعلاه، بل في تقديم الدكتور الراحل سهيل زكار للكتاب في صفحتين. والواقع أن مقدمة زكار لا تمت بصلة إلى مضمون الكتاب، فهو ذهب بعيداً جداً في عدائه للأيوبيين جملةً، وحمّلهم ما لا يقبله عقل تمرس في تفكيك وتفسير حوادث التاريخ. ومما كتبه في مقدمته:  

“يعد ابن واصل الحموي أبرز الذين صنّفوا أخبار الدولة الأيوبية، ولأمر ما أطلق على كتابه “مفرّج الكروب في أخبار بني أيّوب”، لأن المطالع لأخبار الأيّوبيين، من البداية حتى النهاية، يحتاج إلى الله مفرج الكروب، وإلى صبر أيوب، وذلك أن الحكم الأيوبي كان طوال قرن تقريباً كله كروب، ولحكمة إلهية كان المفرّج من الكروب الأيوبية هو هولاكو، لأن كروب بني أيوب وشرورهم وأنانياتهم احتاجت إلى حفيد السفّاح جنكيز خان، وإلى شروره الأعظم، فكان أن أزال البلاء الأيوبي بالهمجية المغولية، ثم بحمد الله جرت إزالة الدنس المغولي بمعارك عين جالوت وحمص الأولى، وأخيراً شقحب.”

ثم يضيف زكّار: “ومما لا شك فيه أن الأيوبيين استعربوا، وظهر منهم شعراء، وسعوا إلى ادّعاء النسب العربي، لكنهم ظهروا أصلاً على مسرح التاريخ جنوداً مرتزقة، ولم يتحرروا قط من عقدة المرتزقة، في مجتمع عانى طويلاً شرور غزو الأتراك الغز أولاً، ثم من الحروب الصليبية، وأعمال الخوارزمية وسواهم، فأصيب بمفاسد الحروب.”

ويتابع زكّار تشنيعه على الأيوبيين ويتهم صلاح الدين بأنه “ترك ساحة المواجهة ضد الحملة الصليبية الثالثة، وذهب إلى الجزيرة الشامية ليبني ملكاً لنفسه.”

وما بين “البلاء الأيوبي” و”الجزيرة الشامية” يكمن فارق في قراءة كل من زكار والحايك لسيرة العائلة الأيوبية، فالأول بما عرف عنه من انحياز بلا رادع للقراءة القومية الراهنة للتاريخ، وكونه أكثر توغلاً في دراسة تلك الحقبة من الحايك، فإن زكّار الذي ربما سبق الحايك في تعريب “الجزيرة الشاميّة”، في تقديمه للكتاب، إلا أنه لم ير سبيلاً لتعريب العائلة الأيوبية، وهذا الدافع الأرجح لتشنيعه على البيت الأيوبي، لدرجة تفضيله حتى ما أسماه “الهمجية المغولية” كأداة لتدمير أركان هذا الحكم الذي لم يجده زكّار عربياً، وذلك على عكس الحايك الذي اعتبرهم في بضعة سطور “عرباً بثقافتهم وتربيتهم ونشأتهم، فقد نشؤوا نشأة عربية إسلامية” ثم يتابع بعد بضعة سطور: “فقد نشؤوا على أرض عربية فتكلموا لغتها، وأحبوا آدابها وعلومها ورعوها..”.

هذا الاختلاف بين رؤية كل من زكار والحايك، يعود في تقديري، إلى أن زكار قد رأى في الأيوبيين ما لم يلتقطه الحايك، فالشيء الذي لم يُنقّب عن الأيوبيين، وألمح إليه زكار في مقدمته حين عيّر صلاح الدين الأيوبي أنه انشغل بتأسيس مملكته في الجزيرة، أن هذه السلالة الكردية المنحدرة من جنوبي القفقاس، قد أنهت عملية “تعريب كردستان” حين كانت قبائل العرب قد وصلت حتى قلب أرمينيا، وأزاحت التركمان من استيطان بلاد الكرد بعد حرب أهلية دامت سنوات، وأغفلها مؤرخو ما بعد “العثماني المفطِر في رمضان”.