في الثورة الحديثة التي بدأت مع الربيع العربي كان يفترض أن تكون قضية السياسيين الحداثية هي حماية المرأة لتطوير دورها في المجتمع, لكن في الواقع هذه كانت آخر اهتماماتهم من كافة الجهات، وبهذا صكوا اتفاقاتهم على حسابها مع جماعة الإخوان المسلمين وبقية التيارات الدينية والطائفية.
وفي هذا المشهد المأساوي في البلاد، ظهر عنوان جديد هو وحدات حماية المرأة, كاد يبدو صارخاً بوضوحه في وجه الانتهاكات التي تعيشها المرأة السورية, خصوصاً من حيث تواجدها في مواجهة مباشرة مع تنظيم داعش.
فمن حيث المبدأ قيام نساء من هذا الشرق بالدفاع عن ذاتهن بالسلاح وتحت راية عسكرية, يحمل رمزية الخروج عن المكانة الاجتماعية المألوفة للمرأة في مجتمعاتنا التي تتعامل، حين الحديث عن المرأة في الحروب، على أنها مخلوق ضعيف كالطفل الرضيع أو العجوز المسن, بل كنا على مدى سنوات لا نسمع عن المرأة في نشرات الإعلام الثورية إلا عبارة “المرأة والطفل ” أو النساء والأطفال وكأنها قاصر مثل الطفل.
إلا أن فكرة حمل السلاح جاءت على أساس أنها ليست قاصراً، فهي ليست بحاجة لحماية رجل بل إنها مثله قادرة على أن تدافع عن نفسها وبهذا تمردت لترفض الوصاية والحماية. لا توجد رمزية أكبر ورسالة أقوى من هذه في وجه مجتمع يقتات على اتفاقات مقيتة على حساب حرية المرأة وكرامتها.
لكن المساواة والتكافؤ يقصد بها أيضاً مساواة بالواجبات، فلا تأتي الحقوق وحدها دون واجبات وهناك حالياً فاتورة ما تنتظر من سيدات سوريا أن تسددها. ولربما الحالة الكردية ليست معممة في أرجاء سوريا لكون هذا التمرد أتى من نساء كرديات سوريات من الشمال.
فوجود داعش في سوريا والعراق فجر قضية مكانة المرأة التي كانت وما زالت قضية قائمة لا يجوز الصمت والتغاضي عنها، كما نلاحظ في صفوف المعارضة السورية التي تتجاهلها تماماً معتبرة المسألة غير موجودة حتى.
فالهدف الرئيس لوحدات حماية المرأة في اللحظة تاريخية كان مواجهة داعش والدفاع عن النفس خصوصاً حين استبيحت النساء في المنطقة، كان الهدف الدفاع عن المرأة الإيزيدية والكردية والعربية وحمايتها من داعش، والفكرة تظهر لأول مرة في تاريخنا المعاصر، جيوش نسائية من شابات في منتهى الجمال والشجاعة فخورات بأنوثتهن ولا يخجلن منها، يفرضن حضورهن في الفضاء العام بالسلاح لا بالترجي والاستعطاف كما اعتدنا في مجتمعاتنا, المقاتلات شابات يرفضن دور الضحية ويعتمدن حالة التمرد على السلطة الأبوية في مجتمع تقليدي.
وفي يوم المرأة، لا نستطيع إلا أن نحييهن بعيداً عن كل الصراعات السياسية. ونقول كما يعبر المثل “زهرة واحدة لا تصنع الربيع”، ونحتاج لوحدات حماية نسائية في كل أرجاء سوريا.
لقد خاف بعض رجال الدين من “حافظي التقاليد” وأصحاب السلطة الأبوية على مكتسباتهم الاجتماعية التي ورثوها من عهد الخلافة العثمانية وقبلها. السلطة الأبوية بدت في خطر, وقف رجال الماضي حائرين أمام هذا المد التحرري للمرأة القادم من الشمال واستراتيجية الدفاع عن النفس أمام تقاليد باسم التاريخ والدين والتي تجعل المرأة ملكية وليس بشرياً متساوياً معهم في الحقوق والواجبات.
فقد كان أمام هؤلاء سابقاً خياران, إما مواجهة الغرب سياسياً وإما مواجهته اجتماعياً واختاروا باب الجامع وسلطة الفقه والتشريع ليسيطروا على المجتمع، ولم يقف أحد في طريقهم آنذاك, وحتى متنوري المرحلة من علمانيين أو حداثيين تخلوا سريعاً عن قضية المرأة، بل حتى المرأة العربية نفسها تنازلت عن قضيتها بسهولة بالغة مؤكدة، ربما عن خوف، على أن مكانتها الدونية في المجتمع هي إرادة ربانية.
وتراجعت المرأة السورية عن مطالبها التي نالت جزء منها في الخمسينات في عصر النهضة ,حين كتب الشاعر نزار قباني عن معاناتها في مرحلته الصفراء, وقيل حينها ظلماً أنها كانت مطالب فئوية لطبقة بورجوازية سميت فاسدة وعميلة للغرب, وقيل إن كل تطلعات التحرر تلك لم تكن تشبه المجتمع ولا تعني المرأة الفقيرة وعامة الشعب. وللأسف كان الأمر كذلك في الواقع, فعندما ننظر للمجتمعات العربية آنذاك كانت فقط بنات الطبقات الغنية هن المتميزات نوعاً ما بالحقوق, فكان لهن الحق بالتحصيل العلمي وأحياناً اختيار الزوج وعدم المعاناة من تعدد زوجات أو التعرض للقتل بجرائم شرف . وبقيت المرأة الفقيرة في كل الطوائف الدينية تعاني الاضطهاد والتهميش والخوف ولم تطلها أي من ثورات التنوير بعمق.
وبعد عصر النهضة، أي في مرحلة الوحدة والبعث السوفيتية في سوريا, حاولت الحركات الاشتراكية إفساح باب التحرر امام المرأة في البداية, عبر فرض التعليم الإجباري للبنات وإيجاد مصعد اجتماعي يلغي الفوارق بين الطبقات, وباشرت تلك السياسات في البداية بإنتاج طبقة وسطى شهدنا فيها معلمات وطبيبات ومهندسات وحتى قاضيات من كافة الطوائف, لكن هذا الحلم لم يدم طويلاً وتم تحويله لعملية ثأر اجتماعي طبقي مقيت حاقد وطائفي قاده ضباط الحكم الأسدي.
وهكذا وببساطة في نهاية السبعينات في سوريا عشنا بداية النهاية لحلم سوري لم يكتمل, ومع المجزرة المريعة التي اقترفها بحقد حافظ الأسد وضباطه في بداية الثمانينات في مدينة حماة وأخرى في سجن تدمر والتي تلتها مراحل عنف مريعة جماعية بحق الشعب السوري بكافة مكوناته, لم يجد الشارع السوري المغتصب والمنهك الا رجال الماضي كخيار بديل عن التحرر الاشتراكي الذي جلب العنف والقتل والإرهاب الداخلي للشعب.
وأما عن استراتيجية رجال الماضي لمواجهة هذا المد الغربي التحرري للمرأة فكان راديكالياً جداً ومتطرفاً, وخلال عشرين عاماً فرضوا بسهولة عودة المرأة للوراء, وتراجعت النساء عن كل مطالبهن وارتدين الحجاب كرمزية انتماء اجتماعي, وكردة فعل ضد طائفية الحكم وعنفه غير الطبيعي, ولاحظنا تراجعاً في سن الزواج وطموح المرأة وانتهى المطاف بعودة المرأة لدور اجتماعي متخصص بكثرة الإنجاب وإرضاء الزوج وخدمة البيت.
نعم نحتاج لوحدات حماية للمرأة، ليس بالضرورة عسكرية أو سياسية، لتحمي المرأة السورية من تعسف المجتمعات وتنقذها من تعسف ذكورية المجتمع داخل المدن والقرى السورية وفي الخارج في المخيمات ودول اللجوء وفي كل مكان.