صورة أخيرة لهشاشة التضامن الكردستانيّ

كانت الأعوام الأولى التي رافقت فترة “الربيع العربي” قد أفسحت المجال لصعود قوميّ كرديّ في العراق وسوريا وتركيا وحتى درجة أقل في إيران، وبلغ التضامن الكردي أشُدّه مع تنامي خطر تنظيم داعش، ومع تمكّنه من السيطرة على الموصل وسنجار استحوذ التنظيم على أسلحةٍ خفيفة ومتوسطة، أميركية الصنع، قادرة على أن تصنع فارقاً في المعارك التي سارت باتجاه المناطق الكردية في العراق وسوريا، ولأن النجدة الغربية والإقليمية تأخّرتا، كان الشرط اللازم للمقاومة هو أن تسارع الأحزاب الكردستانية إلى التضامن في وجه هذا الخطر الوجوديّ، ولعلّ المعارك التي خيضت على أعتاب هولير عاصمة إقليم كردستان وفي أطراف كركوك منحت الكرد فرصة تجاوز الخلافات والصراعات الحزبية والتركيز على التصدي للإرهاب والجينوسايد الداعشيّ.

لكنّ ما تبدّى صعوداً كردياً سرعان ما تلاشى وذوى تباعاً، إذ بدأت سلسلة الإخفاقات تتالى على شكل خسارة أراضٍ يسيطر عليها الكرد في سنجار، ثمّ “المناطق المتنازع عليها” ودرّتها كركوك التي بسط الحشد الشعبي سيطرته المباشرة عليها، الأمر الذي كشف مسألة حساسة وهي أن محاربة الكرد لا تستصحب غضبةً أو رفضاً دوليين، لتخرج عفرين ورأس العين (سري كانيه) أيضاً من يد إداراتها المحلّية، والحال أن عبارة “الحدود ترسم بالدم” بدت عبارة غير قابلة للتحقّق في أي حال من الأحوال، وأنها كانت من قماشة العبارات التعبويّة التي لا تصلح لرسم ملامح المستقبل الكردي.

خرج الأفرقاء الكرد بعد موجة الخسارات تلك أكثر تصلّباً تجاه بعضهم البعض، ولتبدأ إثر ذاك معارك التخوين وإلقاء اللوم وتبادل مسؤولية ما حدث بينهم، وبطبيعة الحال دخلت القوى الإقليمية، إيران وتركيا، على خطّ الأزمة، لتبدأ سيرة أخرى من سِير انفراط عقد التضامن الكردستاني لجملة من العوامل الداخلية (الحزبيّة) والخارجيّة.

في هذه الغضون ثمّة صورة أخيرة لهشاشة التضامن الكردستانيّ، إذ استقبلت أربيل وفداً للائتلاف (إئتلاف قوى الثورة والمعارضة السوريّة)، أمّا في الميزان: فلا منافع ولا مصلحة لأربيل في استقبال ثلّة من سياسيي الصدفة، ممن عافتهم العواصم العربية والدولية وما عادت تستقبلهم كما في السابق، وبحسب المراقب أن يتابع صور رئيس الإئتلاف، نصر الحريري، وهي تصفع بالنعال في المناطق التي تسيطر عليها مليشيات المعارضة المسلّحة، أو كيف يسير الحريريّ رفقة وفده الهزيل في عفرين المحتلّة في ركب واحد من مؤسسي أفظع شبكة حكم لصوصيّ “لصُوقراطي” المدعو أبو عمشة، فيما تئن عفرين وكذا رأس العين (سري كانيه) من وطأة المشاريع العنصرية وسياسات التغيير الديمغرافي القسريّة ومن جرائم  موصوفة وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان وعلى أساس عرقيّ، ومن بين تلك الانتهاكات حالات قتل وسرقة وسطو واغتصاب وسلب أملاك المدنيين وتدمير للأوابد الأثريّة وسرقتها، بكلمات أخرى، ثمّة جرائم منظّمة ترتكب في حق كرد سوريا، وهي جرائم ضد الإنسانيّة يشارك الائتلاف فيها دونما مواربة أو خجل.

أخطأت أربيل في أنّها أولت الاهتمام الرسميّ والإعلامي بزيارة وفد الائتلاف، وأخطأت حين  قبلت استقبال هذه الجوقة ممن تلطّخت أيديها بدماء سوريين وكرد على وجه الخصوص، على اعتبار أن الائتلاف يقدّم نفسه بوصفه الذراع السياسي للفصائل المسلّحة، وإذا كنّا في سياق الحديث في السياسة وأنّ لأربيل مصالحها الحيويّة التي يجب أن نتفهمها فإنّ السؤال الجوهريّ يصبح: ما الذيّ جنته أربيل من استقبالها لقيادة الائتلاف الذي ليس له أدنى نصيب في مستقبل سوريا، بل ليس له أدنى دور في مناطقه “المحرّرة” التي لا يجرؤ على الانتقال إليها، أو هل تتوقّع أربيل أن يكون الائتلاف صاحب قرار في تخفيف الانتهاكات اليومية الحاصلة في عفرين ورأس العين (سري كانيه) أو أنه ليس المسؤول والطرف المبرّر لتلك الانتهاكات؟ في حين أنّ الفائدة الأساس جناها الائتلاف الذي بات يُعرّف على نطاق واسع بأنّه تجمّع للقوى الإسلامويّة الراديكالية الموالية لتركيا وأنه مزيج لقوى طائفيّة وموظّفين قليلي خبرة ودراية بالسياسة وأحوالها، وأنّ جلَّ أعضاء الائتلاف هم أعداء للأقليات، وبالتالي تصبح زيارة أربيل ولقاء رسمييها جزءاً من عملية تعويم الائتلاف الذي يحاول تقديم نفسه صديقاً وحليفاً لطائفة من الكرد، وأنّه لا يعادي كلّ الكرد إنمّا هو عدوّ جزء آخر منهم، وهذا ينزع عن هذا الكيان أبرز سماته العنصريّة المتمثّلة في رفض الإقرار بوجود الكرد فضلاً عن حقوقهم الوطنيّة في التعلّم بلغتهم وصولاً إلى حقهم في إدارة مناطقهم.

وهناك حاجة أعظم للعودة إلى تدارس مسألة الأمن القوميّ الكرديّ، أي أين ينبغي أن يتضامن الكرد في مواجهة سياسات الإبادة والإنكار، وهذه المسائل باتت وثيقة الصلة بالمزاج العام الكردي الذي لا يمكن التشكيك بأهميته ودوره، فاستقبال الحريري ومن معه ساء كرد سوريا بدرجة أو بأخرى وخاصّة عشرات الآلاف ممّن فقدوا بيوتهم وأحبّتهم في عفرين ورأس العين(سرى كانيه)، وإذا كان البعض يدير في رأسه ألف حجّة وسبب للموافقة على زيارة الائتلاف فإنهم يدركون في قرارة أنفسهم أن هناك خطأ ما قد حصل.

لنا أن نتخيّل خطأً موازياً، وهو محض تخيّل، بأن يزور القامشلي وفد من “سرايا أولياء الدم” التي استهدفت أربيل مؤخّراً، لحظتها لا يمكن إلّا أن نكرّر ما قيل أعلاه.