ثقافة المؤسسات وتحديات العصر

للمنظمات والمؤسسات سلوك نابع عن ثقافة وقيم خاصة بها، هي ثقافة تعامل داخلية وخارجية، تختلف من مؤسسة لأخرى ومن مجتمع لآخر تماماً كما هو الحال بالنسبة للإنسان.

وتفتقر مجتمعاتنا الناطقة بالعربية لأبحاث علمية حقيقية عن سلوكية التنظيم المؤسساتي والإداري، ورغم أن غالبية الأبحاث المنجزة في الغرب مولت حاجات اقتصادية هناك وتدور حول تنظيم مؤسسات دول معينة، لكننا قد نجد فيها ضالتنا عبر الأبحاث المتعلقة بعبور الثقافات في المناخ المهني وغيرها.

وأهم الأبحاث المتعلقة بالثقافة التنظيمية هي تلك التي قام بها الباحث الهولندي، جيرت هوفستيد، بدايةً في شركة “أي بي إم” والتي طورها فيما بعد.

ويعد “هوفستيد” رائداً في مجال عبور الثقافات، وبقيت أبحاثه ودراساته بعد وفاته العام الماضي لتثبت أن هناك تأثيراً لثقافة المؤسسات على قيم وسلوك أعضائها، ومن أهم إنتاجاته العلمية أبحاثه المتعلقة بنظرية الأبعاد الثقافية.

وباختصار، يعتمد الباحث مؤشرات للأبعاد الثقافية لقياس التفاوت الثقافي ونوعية الأداء من مكان لآخر. وتلك المؤشرات هي: مؤشر المسافة مع السُلطة, ومؤشر الفردية مقابل الجماعية, ومؤشر ذكورية المجتمع مقابل أنوثة المجتمع ومؤشر القبول بالمجهول.

وأجريت الأبحاث على عينات من سبعين دولة من موظفي الشركة العالمية (أي بي إم) في دول وقارات مختلفة, وانطلق الباحث من نظرية أن الإنسان يولد واحداً في كل مكان وأن الثقافة هي الموروث الذي يجعله مختلفًا عن الأخر, هذا الموروث الجماعي من الثقافة المحلية هوما يربيه عليه المجتمع الذي ينشأ فيه، وهو معتمد ايضاً على الذاكرة الجماعية والخيال المحلي وصور الأبطال المحليين الذين يرى الفرد فيهم قدوة.

باختصار يقول “هوفستيد” أن الإنسان هو مثل جهاز كومبيوتر يضاف عليه برنامج ليعمل، وكما لا يمكن أن يعمل أي حاسوب دون برنامج، لا يمكن لإنسان غير مبرمج ثقافياً أن يتواجد, أي يولد الإنسان حاسوباً غير مبرمج والثقافة هي البرامج التي تضاف له.

وكان لهذه الأبحاث وغيرها دوراً كبيراً في تطوير الأداء للشركات والمؤسسات والحكومات ولعلم الإدارة، واعتمدت كثيراً لتنظيم العمل في المناخات المتعددة الثقافات حيث سهلت إدارة التعامل مع الاختلاف والتنوع وخصوصاً في عصرنا الحالي عصر العولمة .

 وأخذت الأبحاث المتعلقة بعبور الثقافات في مجال العلوم الإنسانية صدى كبيراً في العالم المتطور اقتصادياً، وما زالت تتطور لتسهل التواصل بين الثقافات المختلفة وتقربها، وكل هذا بهدف إيجاد مناخ استقرار وسلام يحسن من نوعية الأداء وبالتالي الإنتاج .

وفي مجتمعنا يقال أن الاستعمار الجديد هو اقتصادي وليس سياسياً، وأننا نعيش في عالم يضم قوى تتحكم بسياساته، أبرزها الشركات المتعددة الجنسيات والبنوك الدولية التي تعمل لصالح إنتاج ربحي لا سياسي بحت, لكن هذا ليس دقيقاً لأن الأبحاث الجديدة أثبتت أن معدل الإنتاج يرتفع أكثر ويكون مستقراً في مناخ عمل يراعي حقوق الإنسان، وكلما تحسنت ظروف حياة الفرد الموظف، تحسن أداؤه ويكون المردود أكبر للشركة أو الدولة والمجتمع.

ومن هنا ربما نستطيع القول أن تلك الأبحاث هي من أدوات مكافحة أي فكر استعماري في الغرب، بل بها يتجه العالم الاقتصادي نحو عدالة اجتماعية عالمية أكبر ومشاركة بالثروات.

من جهة أخرى، نعيش عالمياً مرحلة تحول مفصلية، حيث أن هذا العالم يتغير تحت أنظارنا من عالم صناعي يعتمد على السواعد البشرية إلى عالم جديد ديجيتالي يعتمد على عقل الإنسان الذي أصبح عابراً للحدود السياسية والجغرافية رغم الصراعات الحالية القائمة على النفوذ بين الدول. إن هذا التمازج الثقافي بين البشر الذي نشهده حالياً في كل مكان ليس له سابقة تاريخية ولم يعد يمكننا بعد الآن النظر للماضي لفهم الحاضر كما كان الحال في العصر الصناعي.

وقريباً، لن يبقى هناك عمال أو بالأحرى لن يكون العامل الحديث ذلك الإنسان الكادح الذي يجهد بساعديه كما في روايات إميل زولا, بل سيصبح شبيهاً بذلك الموظف الهندي الذي يقدم عمله من مكتبه عن بعد بمجال المعلوماتية لأكبر الشركات الإنتاجية في أميركا والغرب، ويقبض راتبه محلياً وهو في بلده أو قريته, ولن تكون الهجرة الاقتصادية كما نعرفها الأن, فقريباً لن يحتاج الإنسان في الدول الفقيرة للهجرة بعيداً، كما أن الدول الغنية لن تحتاج ليد عاملة بل ستحتاج لعقول في أي مكان للعمل على حاسوب عن بعد.

أما الدول والمجتمعات التي فشلت بإدارة ذاتها أي شعوبها كما هو الحال في سوريا ولبنان، فستصبح الدول ملزمة بالتغيير العميق الجاد وإيجاد ظروف حياة أفضل للمواطن, لقد فشل العقل الجماعي في دولنا بإنتاج حالة إدارية عصرية، ووصلت البلاد لطريق مسدود لنستيقظ على ولادة الانفجار الذي نعيشه.

وحتماً، تتحمل الدولة مسؤولية الفشل الذي حصل لأسباب عديدة أهمها هرم (عجز) الفكر لدى الجيل الإداري وتخلفه عن العصر والعالم. فقد أنتج المجتمع في سوريا قيادات تنتمي كلها للمدارس الفكرية ذاتها أي الإدارة بالطريقة القديمة الديكتاتورية الهرمية، ولم تخضع لأي تحديث ثقافي ولم تحصل على مدى عقود على أي تفاعل مع الخارج، وهو ما كان من الممكن أن يساهم قليلاً في تغيير أساليبها البدائية الهرمية المركزية.

وكانت نظام المؤسسة الإدارية لسوريا الذي قاد البلاد منذ عقود حريصاً جداً على استمرار حالة عدم التجديد والانغلاق الفكري لدى القائمين على الفكر الاجتماعي السائد والمسؤولين في الدولة. كل الأجهزة كانت مراقبة أمنياً بطريقة محكمة بهدف ألا يتم إنتاج أجيال جديدة مختلفة . فالعمل على الانغلاق كان مُحكماً ابتداء من أساليب ومناهج التعليم البيداغوجي في المدارس إلى مدارس الأساتذة حتى السلك الإداري للدولة، فكافة المؤسسات كانت مدارة بطريقة يمنع فيها أي اختراق.

واكتشف الشعب السوري بعد الثورة أنه لا يجيد إلا اللغة العربية وأن أبنائه لا يتعلمون أبداً المعلوماتية في المدرسة ولا يتحدثون لغات تصلهم بالثقافات الأخرى كما هو حال الشعب التونسي أو المغربي الذي يتحدث فيه حتى الأمي وغير المتعلم لغتين على الأقل.

أما قيادات المعارضة التاريخيين فلم تتح لغالبيتهم فرصة تعلم لغات التواصل مع الثقافات الأخرى، فإدراك الأفكار الحديثة كان غير ممكن في بلد يخضع فيه الإعلام والنشر والتعليم للرقابة السياسية.

 وكثيراً ما كانت سوريا تقارن بكوريا الشمالية لانغلاقها على ذاتها وتشدد الحصار على الشعب فيها, حتى الإنترنت كان ممنوعاً في بداياته وكان يهرب كالحشيش بل إن المخدرات كانت أرخص وأسهل من الدخول لمواقع تواصل عالمية أحياناً.

وفي النهاية، فرغ صبر الشعب واندلعت الثورة وضعفت الأجهزة الرقابية، ومع سقوط جدار الخوف وجد السوري نفسه لأول مرة في مواجهة حقيقية مع ذاته ومع ثقافاته الداخلية ومع ثقافات العالم، وظهرت تحديات التغيير أمامه أينما تواجد، وأدرك شيئاً فشيئاً أنه لا يمكن أن يستمر كما كان.

والغريب في الأمر هو أن هناك من لا يزال يقاوم التغيير لاعناً العالم الغربي الذي شجع الثوار, معتبراً صراعه مع التغيير صراعاً مع الغرب ظاناً أن العقل الغربي ما زال استعمارياً, يتصرف الموالي لبقاء النظام وكأننا في ستينات القرن الماضي ومرحلة الحرب الباردة. وكم نتمنى أن يفيق رجل الكهف هذا من نومه العميق وكم نحتاج لأن يرى العالم المتحول حوله كما هو لا كما تلقنه الأجهزة الأمنية.