الخرائط العثمانية والباحثون الغُزاة

لم تكن الدولة العثمانية في جانبها العلمي والإداري سوى كيان ضخم من تقليدين تبلورا منتصف القرن التاسع عشر. تقليد جديد ينتمي دعاته إلى طبقة المتنورين، ومثّلهم منذ عهد السلطان عبدالعزيز (1861 – 1876) وحتى مطلع عهد عبدالحميد الثاني (1876 -1909) مدحت باشا، وهذا التقليد كان مثاله وغايته التطور العام الكلي في أوروبا. والتقليد الآخر هو القديم، الذي يرى مثاله وغايته في ماضٍ ما، أحياناً يكون محمد الفاتح، وأخرى دول الخلافة الإسلامية السابقة. على أن معظم التناول العربي الحديث للحقبة العثمانية يتغافل عن أن مظاهر هذه الدولة، الثقافية والسياسية، متقدمة إلى حد كبير على النموذج المتخلف والعنصري للدول القومية التي نشأت على أنقاض العثمانية. ولا يعني ذلك أن التراث العثماني لم يجد له أنصاراً، لكن أنصار العثمانية اليوم انتقوا أيضاً أسوأ مافي ذلك الكيان العملاق، وهو القوة العسكرية والإخضاعية، وينبذون أفضل ما كان في هذه الدولة، في مراحل طويلة، باستثناء فترة التنظيمات منذ نهاية عهد محمود الثاني سنة 1839، وذلك مقارنة مع المسخ الموجود اليوم في الدول الحديثة، وهو إدارة كيان يضم أكثر من عشرة شعوب كبيرة، وعشرات الطوائف.

على أنّ هذا الملف جدليٌ أيضاً، ذلك أن جيوش بني عثمان ارتكبت خلال الحقبة التعايشية نفسها انتهاكات إجرامية في طول البلاد وعرضها، ولا يمكن سرد الفكرة أعلاه كمدخل لخلق حنين إلى تلك الحقبة، لكن إذا كان الأمر يتعلق بالمقارنة، فإن معظم المشتغلين القوميين العرب والترك البارزين في التاريخ، عاشوا ويعيشون في دول عنصرية استيلائية غنائمية، وبدون حرجٍ يشنون الهجوم تلو الآخر على العثمانية بشكل كلّي. وهناك في السنوات الأخيرة ظهر مشتغلون من نوع معاكس، أي أيضاً النبش في أسوأ ما في الدولة من مظاهر عصابية ورُهابية، وهو “العِقاب” لدرجة تحولوا إلى مدافعين عن المذابح ضد الأرمن.

الواقع أنّ أطروحات الدولة القومية اليوم تزداد عنفاً فكرياً، وتعوّض عن هزائمها الميدانية هنا وهناك، على أيدي المقاومة النابعة من الإلغاء الأحادي القوموي السائد حالياً في مركزين سابقين للعثمانية، هما دمشق وأنقرة، على سبيل المثال. من أبسط فضائح الدولة القومية أن مناهجها التعليمية، في كافة المراحل، تتحايل على طريقة “الغزوات البحثية” على نشر خرائط الدولة العثمانية التفصيلية، وتكتفي بأخرى معدلة وعمومية لا تظهر فيها سوى ما يهم قادة هذه الغزوات البحثية، فتخلو الخرائط من كلمة “كوردستان” العملاقة في العديد من الخرائط الرسمية، وكذلك من كل ما يشير إلى لصوصية نموذج الدولة القومية اليوم. وللتحايل يختار الباحثون الغزاة خرائط تذكر فيها المدن الكردية مع حذف اسم المنطقة الممتدة من أعالي الفرات وحتى شهرزور، ولا يمكن أن يصدف وجود مادة بحثية تدرس الولايات بالتفصيل، ذلك أن الباحثين الغزاة، الأجراء لدى الدولة القومية، لن يجدوا طريقة للقفز على كردستان ولازستان وأرمنستان، في حالة سوريا وتركيا، كما ستكون الخرائط العثمانية مزعجة في كل النواحي. فما هي سوريا الكلية وفق هذه الخرائط؟ وكيف سيفسر قوميو البعث والإخوان في سوريا أن ولاية سوريا لم تتجاوز سوى في فترات مؤقتة ومتأخرة نهر الفرات؟ الحل في إعادة رسم الخرائط لتتناسب مع النموذج الرجعي في الإدارة السياسية الذي تمثله نموذج الدولة القومية السائد، سواء في سوريا أو تركيا، وجوارهما. وفي بعض المقررات الدراسية، آثر بعض “الباحثين الغزاة” العاملين لدى الدولة التركية على عدم الاكتفاء بتجاهل من هم الأيوبيون مثلاً، كما يفعل نظراؤهم في الدولة القومية العربية، بل بالغوا في نسبهم للقبائل التركية، وبدون حرج، ذلك أنه في رأيهم غير المصرح به، فإن القسم الأكبر من الكرد اليوم جزء من تركيا، ولذلك الأيوبيون أتراك!

لكن خارج المقررات الدراسية الوضع أسوأ بكثير، ذلك أن المناهج الدراسية هي الأقل تأثيراً لأنها فاقدة للثقة حتى من قبل الطلاب الذين يدرسونها ويوافقون ما يأتي فيها من حيث المبدأ. وفق هذا المنطق، لا نجد في الخرائط التي أرفقها أكمل الدين إحسان أوغلو أي خريطة يظهر فيها اسم كردستان، واستعان بالخرائط المحدّثة “قومياً”، مكتفياً بذكر المدن الرئيسية في الدولة، واختار خريطة للجغرافي الهولندي، يوهانس جانسونيوس (1588 – 1664)، وهي خريطة عملاقة في الأصل، لذلك تظهر الخريطة لدى أكمل الدين إحسان أوغلو عبارة عن صورة فيها خربشات غير مفهومة على الإطلاق، وليس من الواضح ما جاء فيها من تقسيمات. لا يبدو الأمر بهذه الأهمية لدى البعض. هل المعيار هو ما إذا كان اسم كردستان موجوداً أم لا؟ الواقع ليس هذا المهم، لكن في هذا التجاهل تأسيس وإسهام فكري في حرب الإلغاء القوموية ضد التعددية، وفيها أيضاً طعن في الروح العثمانية في التعايش والتماشي مع التعددية، هذه التي تفتقر إليها الدول الحديثة التي تأسست على هجاء ما كان قائماً أيام العثمانية.

إن التاريخ الجغرافي للدولة العثماينة سيبقى خارج مقررات النشر والبحث في الدولة القومية، ومن يمشي في ركاب هذه الدولة الأحادية، فهي كيانات قامت على إنكار الشيء الوحيد الإيجابي في العثمانية، وهو الشيء الوحيد الذي يتطلب إحياءً وانبعاثاً واعياً وغير حنيني للنموذج الكلي العثماني، لأن هزيمة الدولة القومية العنصرية يحتاج إلى سرد آخر للتاريخ، يكون فيه الجميع موجوداً، وكل الشعوب ممثلة. هناك حاجة للتوسع في دراسة نموذج الإمارة القبلية الملّية التي كانت الانعكاس الأكثر شبهاً بتعددية الدولة العثمانية، وكذلك ولاية حلب التي يتم تجاهل تركيبتها التعددية في التاريخ القريب، وطالها التشويه على أيدي “الباحثين الغزاة” عبر تصوير ممتلكاتها امتداداً للدولة العربية التي أسسها البريطانيون في دمشق، وتوسعوا في خرائطها على الأطراف لتصبح مع باحث مثل محمد جمال باروت، تضم كل الولايات جنوب طوروس بما فيها دياربكر وجزيرة بوطان وسرت وماردين وأورفا وعينتاب. وبعض الباحثين الغزاة بات يرسم خرائط وفق تتبع آثار قطعان الأغنام التي كانت تتجول في حدود بلاد الكرد، وأصبحت أماكن اجترّت فيها قطعان الأغنام الأعشاب بشكل موسمي، في برية ماردين وجنوب دياربكر، ملكية قومية قبليّة تشرّع حرب الإلغاء القائمة أساساً من قبل النخب القومية للمدن التي لا تقيم أي اعتبار للقبائل العربية سوى استخدامها ضد حالة تعددية يكون الكرد طرفاً فيها.

في موازاة الهزائم الحديثة للدولة القومية، تظهر الحاجة إلى إلحاق هزائم في ميادين الأبحاث الاجتماعية والتاريخية بالطبقات الملتصقة بالعسكر القوميين، فحتى لو ظهر أنهم معارضون للأنظمة في بعض الحالات، فهم يشلكون دائرة تتكامل مع ذرائع الحرب وتوفير مساحة للنظريات الهشّة للدولة القومية الاستيلائية.