بصيص أمل قادم من الشمال السوري.. ترقبوه

اختفت المرأة السورية من الشارع بعد فترة قصيرة من نزولها إليه في احتجاجات العام 2011، رغم أن موقفها في المظاهرات السلمية حينها، على غرار مثيلاتها في مصر وتونس، لم يكن من باب مساندة الرجل الثائر، بل كانت حقاً تعبيراً عن موقفها كثائرة.

تحولت الساحات تدريجياً لمعركة عسكرية يقودها رجال دين، ولكن يجب ألا ننسى أن الأجهزة الأمنية للحكومة السورية هي من قمعت وغيرت المشهد الأول الذي تضمن حضور المرأة الثائرة والطابع المدني.

ومع تحول المشهد من مدني إلى ديني وعسكري، أصبحت المرأة مستهدفة من الجميع، إذ دخلت وحيدة في صراع مزدوج مع محيطها الذي أفرط بالتشدد مع المرأة وحدّ من حرياتها الشخصية من جهة، ومن جهة ثانية كانت المرأة ذاتها مستهدفة من الأجهزة الأمنية الموالية للنظام لإلحاق الذل بالثوار عبر الاعتداء عليها.

وفي مراحل لاحقة، تطورت حالة التشدد وظهرت في مناطق تحكمها تنظيمات القاعدة وفيما بعد داعش، فكلنا نعلم كيف كان حال المرأة هناك وما القوانين التي حكمت المجتمع.

وفي حالات، خرجت المرأة الثائرة قليلًا عن صمتها وبدأت تسرد للعالم معاناتها في المعتقلات، وكيف نبذت أو هُددت حياتها من قبل أهلها لكونها اعتقلت.

وللمرأة، في الطرف الآخر الموالي لنظام الأسد، معاناتها التي لم تشتك منها بعد بصورة جلية، فمن الغبن أن نقول أنها في أفضل حال، بل يحتاج الأمر للنظر في حقوقها لأن المسألة ليست حرية لباس وزينة.

وفي عهد البعث ونظام الأسد، صيغت القوانين السورية لإرضاء الرجل فقط وفق معايير مجتمع ذكوري، كما أن التسلط والسماح بالظلم عموماً كان كل ما يستطيع النظام تقديمه لمواليه كي يقاتلوا معه.

ويبدو تعدد الزوجات ظاهرة منتشرة وسط ضباط النظام العلويين والسنة، وليس بيد الزوجة في هذه الظروف البائسة إلا الصمت.

لكن حال المرأة في مناطق شمال شرقي سوريا تبدو مشرقة بالأمل مقارنة بجاراتها، فالقانون والإدارة والممارسة ضمن مناطق الإدارة الذاتية ميادين تدل على إرادة حقيقية في التغيير هناك. 

هذا رغم أن الشمال كان قبل الثورة والحرب من المناطق الأكثر إهمالاً من الحكومة البعثية وخصوصاً من حيث البنى التحتية، فقد كانت المرأة تعاني من تهميش وظلم أكبر من ذاك الذي تعرفه بنات دمشق وحلب والمدن الكبرى في البلاد.

وفي منطقة الجزيرة وشرق الفرات، تتعايش مكونات عديدة رغم أن لكل منها قوانينه الداخلية ذات الصفة العشائرية التي يصعب اقتحامها، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتغيير واقع المرأة.

وتعد تجربة الإدارة الذاتية رائدة في هذا المجال، حيث قررت مجموعة نساء كرديات اقتحام الحصار المفروض على أخواتهن في المنطقة الأكثر صعوبة وخطراً، مُواجهاتٍ بشجاعة غضب ورفض المجتمع للقوانين الجديدة التي فرضت على الرجل احترام زوجته وأخته وابنته من خلال تبني عقلية جديدة للتعامل مع المرأة.

وبدأت المعركة بداية مع المجتمع عبر محاربة داعش الذي وجد بعضاً من الحاضنة الشعبية في مجتمعاتنا، واستمرت بالتوازي مع محاربة داعش بالنضال فكرياً في الشمال السوري من أجل حقوقها.

لكن الأمر ليس بسهل ولن يحسم ببساطة، فتغيير المتعارف عليه أصعب من تغيير القوانين ذاتها، وقد تتمكن سلطة تنفيذية كالإدارة الذاتية من ضبط ممارسات كالعنف ضد المرأة وحماية بعض النساء، لكن ليس يسيراً إقناع رجال المجتمع بالمشاركة في عملية التحديث وتغيير الأدوار الاجتماعية في الأسرة، وكذلك القبول بالمشاركة الندية مع المرأة. مع أن النتيجة ستأتي بالنهاية لصالح الرجل أيضاً كما هو الحال في الغرب،  حيث تحرر الرجل من أعباء كثيرة لوجود شريكة ندية له تتحمل معه مسؤوليات عديدة.

ومن أجل بناء سوريا أخرى لا تُذل فيها المرأة ولا أي أحد آخر، لا بد من هذا النضال لبناء جيل جديد متوازن وحضاري. فالدول المتحضرة الديمقراطية تتميز بقوانين علمانية إنسانية تنصف المرأة وتعطيها كافة حقوقها وتحميها من العنف وتحمي الأسرة وتعمل على التوعية العامة.

وهناك في الشمال، العمل جار على يد نساء في هذا المجال الاجتماعي، وبدأ يعطي نتائجه لدى الرجال الذين يبدون من أشد المقتنعين بمشاركة المرأة، إنها البداية ومن هنا الانطلاق. هناك أمل جديد بسوريا الجديدة.

بينما تريد المعارضة التقليدية مع سياسييها في سوريا بتغيير نصفي، تغيير يشمل  نصف المجتمع فقط لاغين بذلك نصفه الآخر، ومعتبرين السياسة والشأن العام شأناً ذكورياً لا مكان للمرأة فيه. يريدون حرية منقوصة ووطناً منقوصاً يفتقد لكل ما يعطي سوريا الخصوصية والتمييز .

المرأة الكردية ثارت قبل غيرها على هذا الواقع وحملت السلاح ضد داعش والفكر الظلامي. فعلت هذا لأنها مقتنعة بأن حرية بلد لا يمكن أن تُنجز منقوصة بل إنها تبدأ بحرية نسائه وتعزيز مكانتهن في المجتمع.

وفي البداية كان ينظر للحالة الكردية على أنها استثناء عن المعارضة السورية التي لم تفسح مكاناً حقيقياً للمرأة، لكن الجميع بدأ فيما بعد يعي أن هذه هي الحالة العامة المطلوبة لسوريا، فلا يعقل أن يساند العالم ثورة تعمل على إعادة المجتمع إلى الوراء، وما لم يفهمه بعد كثيرون في المعارضة السورية هو أن أحد مقومات مناصرة العالم الحر للإدارة الذاتية هو إنصافها للمرأة وتطلعاتها الصادقة للحرية والحضارة.

فوجود المرأة هناك ليس تمثيلاً ولا اصطناعاً بل هو حقيقة تتجاوز فيها مطالب ثورتها الواقع السابق وتحلق بعيداً لتسمو فوق الوضع المفروض على المرأة في المجتمع السوري المعارض والموالي. 

ورغم الصراعات التي تنهك سوريا وشعبها، هناك بصيص أمل قادم من الشمال، ترقبوه..