أربيل

من حسن حظ المدينة ذات الاسمين (أربيل وهولير)، عاصمة إقليم كردستان العراق، أنّ معظم من سلكوا طريق القوافل والبريد من اسطنبول إلى بغداد، خلال القرن التاسع عشر، قد قادتهم ظلال التاريخ الغابر حول معركة “غوغميلا” بين الجيش الأخميني بقيادة داريوس الثالث والجيش المقدوني بقيادة الاسكندر الكبير، سنة 331 قبل الميلاد،إلى أربيل. كان الاعتقاد الشائع أن وقع المعركة جرى بالقرب منها، وما أن تتراءى المدينة أمام الرحالة والمستكشف حتى يسرد بحماس وقائع هذه المعركة التي انتهت بها الامبراطورية الأخمينية من الوجود حيث كانت أربيل مركزاً دينياً كبيراً، وبقيت كذلك إلى أن اجتاحها جيش المسلمين، فصعدت مدن جديدة باتت معسكرات للجند، لم تكن أي من مدن شهرزور والجبل، ومركز الجبل (كردستان) حينها همذان وكانت المدينة الوحيدة المأهولة بالكرد شهدت استمرارية في الازدهار لأنها كانت مدينة للاستيطان العسكري للعرب، على خلاف إربل ومحيطها، التي لم تشهد تدفقاً سكانياً سوى في فترة انزياح القبائل التركية من وسط آسيا نحو الغرب. يمكن ملاحظة أن ما كتب عن أربيل في مسالك الجغرافيين المسلمين، منذ القرن العاشر الميلادي، كان سفراً يكرر نفسه حتى القرن التاسع عشر. لم يكن من ملمح ثابت يستحق الوصف سوى قلعتها المتداعية. 

في موازاة دمار وجهها في الحروب، غارت المياه، ولم تعد مدينة ذات وفرة مائية حتى العصر العباسي. ولم يكن لها في عهد بني أمية من ذكر وكادت تتلاشى، فنهضت أواخر بني العباس حين غلب على الدولة غير العرب، فأطلت برأسها أيام الزنكي والأيوبي وقد تغير العالم وهي متوارية ومحبوسة في آن. ولم تكد تهنأ بتكوين دار ملك في القرن الثالث عشر حتى حطمها المغول ولم تعد للازدهار بعدها. والمدينة بلا أنهار في سيرتها الطويلة. وحين دخلها ياقوت الحموي، المتوفي سنة 1229، كتب:

“ومع سعة هذه المدينة ، فبنيانها وطباعها بالقرى أشبه منها بالمدن ، وأكثر أهلها أكراد قد استعربوا ، وجميع رساتيقها وفلاحيها وما ينضاف إليها أكراد، وينضمّ إلى ولايتها عدّة قلاع، وبينها وبين بغداد مسيرة سبعة أيام للقوافل، وليس حولها بستان ، ولا فيها نهر جار على وجه الأرض ، وأكثر زروعها على القنيّ المستنبطة تحت الأرض”. وقبلها في عام 951 ميلادية، سهى عنها الاصطخري في “المسالك والممالك” ولم يذكرها قط. وبعد قرون، ذكر أبو الفداء صاحب حماة، المتوفي سنة 1331 م،  في “تقويم البلدان” أن لها قنوات كثيرة، تدخل منها اثنتان إلى المدينة للجامع ودار السلطنة. ونقل عمن قبله: “إربل قاعدة بلاد شهرزور”. وفي حقبة بني عثمان كانت شهرزور قد اختفت تماماً، وحتى موضعها مجهول رغم اجتهادات لتحديدها، وأضحت اسماً لمنطقة واسعة شملت في فترات منها كركوك و حتى إربل.

حين وصل الرحالة الفرنسي أدريان دوبريه في تشرين الأول 1807 إلى عينكاوى، لم يفته التذكير (بمعركة غوغميلا).

وبدا أنه لم يكن مقتنعاً بما أورده العديد ممن سبقوه من تحديد موقع المعركة في السهل الفسيح المتصل بهذه القرية التي هي حالياً واحدة من الأحياء العريقة لمدينة أربيل. وقالوا إن سهل “كاميل” تعني مسكن الجمل لأن داريوس اتخذ هذا المكان لراحة الجمل الذي حمل الأغراض في إحدى حملاته.  

كان طريق الرحلات القادمة من عاصمة الامبراطورية، اسطنبول، إلى بغداد، تمر بمحطات رئيسية معروفة، وهي محطات تتوقف فيها القافلة أياماً، هي دياربكر والموصل وكركوك ثم بغداد، وهناك محطات مرور صغيرة، بعضها يكون مجرد ترانزيت دون الدخول إلى المنطقة المأهولة، كما الحال مع سنجار التي كانت لها سمعة تضرب الآفاق في نهب المسافرين، وأربيل تكون محطة من النوع الذي يقضي فيه المرء القادم من الموصل ساعات لا أكثر عادة للنوم، ليتابع طريقه إلى آلتون كوبري، دون توقف سوى للتزود بالمؤونة، وصولاً إلى كركوك. وحتى مطلع القرن التاسع عشر، لم تكن أربيل عاصمة لإمارة قوية. غالباً كانت تقع تحت نفوذ إمارة بهدينان ومركزها التاريخي العمادية، ولفترة وجيزة حكمها محمد باشا، وعاصمته راوندوز، وهي حالياً بلدة متوسطة لا تقارن بأربيل، لكن مع ذلك كانت تضم أربيل مركزاً ثابتاً لممثلي الدولة ومقراً لكتيبة من الجنود العثمانيين. هذا الحضور الرسمي جنّبها أن تكون مطمعاً للإمارات الكردية الطامحة للتوسع، وكذلك من إقطاعيي الموصل الذين، بحكم علاقاتهم مع المركز الحكومي القوي في مدينتهم الموصل، وكونها مركزاً لتصريف ونقل البضائع، كانوا أصحاب نفوذ على وجهاء أربيل وضواحيها، وانعكس هذا النفوذ حتى على مناطق بعيدة نسبياً، مثل بارزان، حيث كان لأطماع وجهاء موصليين في التوسع الإقطاعي وتحصيل الرسوم من سكان قبيلة الزيبار دوراً في الإيقاع بالشيخ عبدالسلام البارزاني، عام 1914، وإعدامه على جسر دجلة.  

في العام 1807 حين وصل دوبريه إليها كتب: “هي مدينة صغيرة يسكنها ثلاثة إلى أربعة آلاف نسمة. تسيطر عليها قلعة جاثمة فوق تل اصطناعي منتصب وسط السهل. فالتلة والقلعة بكونان مدينة داشرية محاطة بخنادق، فيها فتحات للضرب بالبنادق وليس هناك مزاغل لنصب المدافع”.

وسكان أربيل وفق وصف الرحالة الفرنسي “أكراد من قبيلة باجلان الذين يسيطرون على هذه الأراضي ما بين الزابين، وكان حاكمها في ذلك الزمان برتبة بيك. إنّ دوبريه أكثر دقة من غيره في ذلك الوقت حول تحديد موقع معركة داريوس والاسكندر، بين نهري الخازر والزاب الكبير، وأن الاسكندر لم يدخل أربيل إلا بعد أيام عديدة من قهره داريوس.

لم يطل دوبريه الإقامة في المدينة. وتسبب حاكم أربيل بتأخيره مدة لأن الحاكم طلب مرافقه ساعي البريد ليستوضح منه بعض المعلومات من اسطنبول، وكان يتمنى أن يعرف إذا كانت ولاية بغداد ستسند لسليمان باشا. ويبدو أن اللقاء كان مثمراً وأن حاكم أربيل سرّه ما سمعه، فمنح ساعي البريد خلعة. والأرجح أنّ الحاكم ارتاح لتولي سليمان الصغير الحكم. والأخير عرف في تاريخ سلالة مماليك العراق باسم “سليمان الصغير” تمييزاً له عن والي بغداد القوي السابق، سليمان الكبير، الذي استطاع اقتحام عاصمة إمارة بابان، السليمانية، وأسس لتفكيك هذه العائلة الكردية الحاكمة منذ عقود. فكانت شخصية والي بغداد، وهي وراثية حتى نهاية عهد داوود باشا عام 1831، تأثير مباشر على المدن الكردية، خاصة أنه منذ أن تمدد سليمان الكبير في كردستان، تراجع نفوذ ولاة الموصل في تلك الأنحاء تحت حكم أسرة آل الجليلي. بكل الأحوال لم تكن أربيل طرفاً في تلك الصراعات التي درات طيلة ثلاثة عقود بين بغداد وكردستان الجنوبية، لأنه لم يكن لأربيل جيش، وذلك على خلاف السليمانية وراوندوز والعمادية، فطابع الإقطاع الحاكم فيها كان ميّالاً للاستقرار وعدم التوسع.

بعد 13 عاماً من مرور دوبريه بأربيل، سنة 1820، قدم إليها رحالة بريطاني واسع المعارف، هو كلوديوس ريج، فأقام فترة في السليمانية وله صحبة مع حاكم كردستان القوي، محمود باشا بابان، وهو الأجنبي الوحيد الذي ذكر باهتمام قصة خروج مولانا خالد، مجدد الطريقة النقشبندية، من السليمانية إلى بغداد، بعد صراع مرير مع قطب الطريقة القادرية، الشيخ معروف النودهي، الجد الأكبر للشيخ محمود الحفيد، ملك كردستان عام 1922.

لم تكن زيارة أربيل على أجندة ريج، سوى أنها على طريق رحلته من السليمانية إلى الموصل. نزل أولاً عند قناة ماء تعود إلى الحاج قاسم آغا على بعد قليل من الجنوب الغربي من المدينة. لحسن الحظ قرر المستر ريج البقاء في أربيل “مدة يوم أو يومين لإراحة جماعتي، وكراء بغال أخرى وتوديع عمر آغا”. والرجل مهتم بالآثار، لذلك مع نهوضه الفجر ذهب أولاً إلى المنارة القديمة، ويصفها بأنها “أبرز مظاهر المدينة”، ويقصد بذلك منارة كوكبري، ويسهب في وصفها هندسياً. كانت الخرائب تحيط بهذه المنارة حسب مشاهدات ريج، وهي أكوام من الأنقاض كأنقاض بغداد القديمة، حسب وصفه. ويضيف إلى ما سبق: “يبدو أن المدينة كانت فيما مضى جد واسعة؛ وربما كانت بسعة بغداد الحالية.. وفيها حمام واحد ، وخانات وأسواق. ويقع قسم من المدينة فوق الطنف ويسمى هذا بالقلعة. وهنالك إلى الشرق من المدينة، وبالأحرى إلى شمالها قليلا منخفض يدعى وادي (جي كونم) يقال إن تيمورلنك نصب خيمته فيه، عندما حاصر أربيل ، وإن شيخا من أربيل نشر الرعب في جيشه فأخذ يتفرق فصاح تيمورلنك عند ذاك بالفارسية قائلا: «جي كنم» أي «ماذا أعمل؟» فأصبحت العبارة علما للوادي”.

في اليوما التالي ينتهز ريج الفرصة يواصل استكشافاته وهو محاط بجمع غفير من الأربليين “وقفوا على شكل نصف دائرة عن بعد، وغلايينهم في أيديهم وأفواههم وهم يتحدثون”. لا يسعفه الوقت لبناء استنتاجات قوية في رحلته القصيرة هذه، لكنه رجح أن تكون التلة الاصطناعية مرتفعة أكثر في السابق، وربما قام الامبراطور كركلا بهدم ذروتها. ويقصد ريج معركة أربيل حين قام الامبراطور الروماني بذبح كل ضيوف حفل زفافه على ابنة الملك البارثي،  أرتابانوس،  في القصر الملكي بأربيل. فأمر كركلا بذبح الضيوف جميعاً في القصر الذي يعتقد أنه كان في موقع قلعة أربيل الحالية، ودمر على إثرها بلاد ميديا والمقاطعات الغربية، إلى أن اغتاله أحد الرومان في نصيبين، فانهارت حملته، وتحررت مقاطعة ميديا، الجزء الغربي للاميراطورية البارثية، من الاحتلال الروماني حتى نهر الفرات غرباً.

يقول ريج إن هناك أسطورة محلية خاصة بأربيل هي أن داريوس هو الذي بنى أربيل، ويستبعد هو ذلك لأنه “لا توجد في أية قصة شرقية أو تاريخ شرقي أية صلة بين دارا وأربيل، والشرقيون عموما يجهلون أمر معركة أربيل”.

خارج المدينة، عاين ريج الأرض في الشمال الشرقي عند قرية رشكين، فوجدها مزروعة بكاملها زرعا جيدا “وهي أكثر تموجا من الأرض الواقعة في جنوب أربيل. وكان القرويون منهمكين بالحرث، وهو خدش بسيط لسطح الأرض ليس إلا. وقد شاهدنا ثورا صغيرا وحمارا يجران محراثا وقد ربطا إلى فدان واحد”.

كانت الفترة بين رحلة دوبريه عام 1807، ثم ريج عام 1820، وجيمس فريزر عام 1843، صعوداً لافتاً لأربيل في قابليتها للحياة واستقطاب السكان. وكان ذلك أوضح لدى رحلة الأخير، الذي عاين ما حققه الأمير محمد الراوندوزي، الحاكم الأقوى في كردستان قاطبة في عام 1834. وعاشت طبقة الفلاحين عصرها المزدهر خلال الحقبة القصيرة التي بسط فيها هذا الأمير سيطرته على جنوب كردستان بدون منازع، ما عدا الهجمة الوحشية التي قام بها على الإيزيديين.

نجا الكرد إلى حد كبير من كارثة الضراب التدميرية للإدارات العثمانية، مقارنة بالعسف الذي لحق ببقية السكان. ويمكن ذكر خلاصة تقديرية تحتاج إلى دراسات، وهو أن حجم المساحة التي كان يشغلها التركمان بين العراق العربي وكردستان قد انحسر بشكل كبير بين القرن الثامن عشر ومنتصف القرن العشرين. في بداية وصول المستشرق البريطاني جيمس فريزر إلى حدود كردستان لاحظ شيئاً من الازدهار على مشارف أربيل، مقارنة ببغداد التي انهكها الباشا العثماني علي اللاظ لاستئصال نفوذ المماليك. فقد كان السهل الممتد ما بين آلتون كوبري وأربيل مكسوّا بالأزهار المختلطة بأوفر أنواع الخضرة وأبهجها ، كما كانت البلاد تعج بالسكان، وفق شهادة فريزر.  

بعد عقود طويلة من العزلة الاختيارية لأربيل، اقتحمها الأمير الراوندوزي القوي بجيشه دون أن يخوض فيها معركة، وعيّن شقيقه، أحمد بك، حاكماً عليها. وبوصوله إلى هناك، هابته القبائل العربية، وبحسب شهادة فريزر والدكتور روس، الذي زار الأمير قبل فرزير بعام واحد: “فإن عشائر طي العربية تخضع للباشا وتبعث بقطعات غير يسيرة من رجالها لجيشه”.

رغم الطابع الكردي المديد لأربيل، إلى جانب سكانها التركمان غير القليلين منذ عهد مراد الرابع، لكنها كانت حتى القرن التاسع عشر أيضاً بمثابة “دولة مدينة” مستقلة عن كردستان والموصل وبغداد، ووجد فيها الدكتور روس عام 1833 مدينة مكتفية ذاتياً في كل شيء. وليس غريباً أن ريج حين ذكر بإيجاز شديد بعض ملامح الطبيعة، أن يقول: “تكثر الأرانب والغزلان في سهل أربيل ، مع أسراب لا حصر لها من القطا. وتصاد الصقور البالابانية في هذا السهل أيضا، وتصدر إلى كردستان خاصة”، ويقصد بكردستان هنا هي المقاطعات التي تخرج منها عادة الجيوش الكردية، في السليمانية والعمادية وراوندوز وأردلان. وهذا الجانب يحتاج إلى مزيد من التنقيب البحثي والاجتماعي، فأربيل لم تسعى لتأسيس إمارة مستقلة دون استثناء من تعاقب على حكمها. ويمكن القول إنه بعد تحطيمها مرتين على أيدي المغول، هولاكو وتيمورلنك، فإنها فقدت مركزيتها الحاكمة على الأنحاء حتى تحريرها من نظام صدام حسين عام 1990، باسمها الكردي “هولير” وهو الاسم الذي يفضّله الرئيس السابق لإقليم كردستان، مسعود بارزاني، ولا يستخدم غيره. فكانت جاهزة لتعود عاصمة أعمال وتجارة، وواحدة من مدن الشرق الكبيرة وقلعة من قلاع كردستان.