ماذا بعد “فكرة” المجلس العسكري؟

بمعزلٍ عن الأطراف التي دعت إلى إحياء فكرة إنشاء جسم عسكري يتولّى قيادة المرحلة الانتقالية في سوريا، بعد أن كانت الفكرة طُرحت في عام 2013، وسعى المبعوث الدولي، آنذاك، ستيفان دي مستورا، إلى وضعها ضمن إطار يرمي لتنفيذ بيان جنيف، لكن الفكرة التي ولدت ميّتة حينها يُراد إحياؤها مرّة أخرى، إما قفزاً على واقع تعثّر أعمال اللجنة الدستورية، أو تزجية للوقت ومحاولة قول شيء جديد في ظل تهافت الأفكار المطروحة وانعدام جدواها.

وفور طرح فكرة إنشاء جسم عسكري يتولّى قيادة البلاد مؤلّف من عسكريين في النظام والمعارضة، حتى بدأت التحليلات والمواقف بين رافضٍ وموافق، غير أنّ الطرح الذي بدا حالماً وتشوبه الكثير من الأسئلة من قبيل: من هم العسكريون الذين سيقع عليهم الاختيار، وهل يمكن لجسم كهذا الاجتماع تحتّ سقفٍ واحد وأين، وما الرتب العسكريّة المخوّلة لتكون متكافئة لبعضها البعض، ثم هل يجرؤ عسكريو الطرفين على التنقّل خارج مناطق نفوذهما، والأهم لأيّ دولٍ سيتبع منتدبو هذا المجلس المزعوم؟

ولا تتطلّب أسئلة كهذه أيّة إجابات، ذلك أن التفكير في استحالة تنفيذ مشروع كهذا يشي بالغرض، كما أنّ الشروع في تأسيس هذا المجلس يعني أنّ الأمور وصلت إلى خواتيمها وأن الأزمة والانسداد السياسي قد انتهيا، وهذا قول لا يمكن تصديقه بأيّ حال.

وفي الدول التي شهدت تجارب حكم مجالس عسكرية، كانت القيادة العسكرية في بلادها متحدة، كما في تجارب البرازيل والأرجنتين والعديد من دول أمريكا اللاتينية، أو تجربة حكم المجلس العسكري المؤقت في مصر، فحكم المجالس في تلك البلدان جاء إمّا بناءً على انقلاب عسكري أو إنهاءً لأزمة سياسية أو اقتصادية مديدة، أو تولّياً لمرحلة انتقالية محدّدة زمنياً إلى حين تسلم حكومة مدنيّة السلطة، في حين أن طبيعة الأزمة السورية المركّبة تقودنا إلى إخراج نموذج المجلس العسكري في الحالة السورية من عالم المجالس العسكرية في الدول الأخرى.

الحماسة للمشروع جاءت من معارضين أو محسوبين على المعارضة، فيما أغلب المتحمّسين أشاروا إلى روسيا التي يمكنها أن تتكفّل برعاية هذه الفكرة ودعمها، وحيث أنّ التوجّه إلى موسكو يستبطن تذاكياً من قبل معارضين لطالما أضمروا العداء لروسيا وشجبوا مواقفها الداعمة للنظام، وهذه الجزئية لا يمكن أن تفوت الروس، فضلاً عن ذلك تستلزم دعوة كهذه موافقة دمشق بالدرجة الأولى رغم النفوذ الروسي، والأهم أنّ موسكو تعي صعوبة إقناع دمشق بقبول هذا الطرح مهما كان في صالح النظام حيث أنّ الجملة التي لطالما كرّرتها الخارجية الروسية تبقى سائرة المفعول ومفادها: تقبل دمشق كل شيء من روسيا، إلّا النصيحة!

فبوسع دمشق رفض الحديث عن هذه الفكرة، وليس الخوض فيها ثم رفضها، ذلك أن الأساس النظري لمفاوضات جنيف بين المعارضة والنظام يعتمد على عدم القفز على مرحلة انجاز دستور للبلاد، كما أنّ مسألة تخمين موافقة النظام بسبب تصدّر اسم العميد مناف طلاس قائمة الأسماء المحتملة التي يمكنها إدارة المجلس العسكري لا تستند إلى دليل فعلي، فطلاس في المحصّلة ضابط منشق ولا يمكن إقامة الدليل على اعتباره جزءاً من الخطّة (ب) التي وضعها النظام والتي يلمح إليها البعض في تحليلاتهم التي لا تخلو من اتكاء على نظريات مؤامرة بحيث يعتبرونه مخلّصاً للنظام حال تعثّر أو فشل الخطة (أ)، في حين أن الوقائع تشير إلى محدودية أثر الضابط طلاس، فضلاً عن عدم وجود خطط لدى النظام وفق ترتيب محكم، أو إن شئنا الدقة: خطة النظام الوحيدة والأثيرة هي ما يقوم به منذ عشرة أعوام وحتى اللحظة وربما مستقبلاً.

وإذا كنّا في سياق الحديث عن جسم عسكري مشترك لابد من الإشارة إلى التفاوت بين جيش النظام الذي حافظ على هيكله العام ومركزيّة قراره حتى درجة بعيدة، وبين فصائل المعارضة التي يغيب عنها أي دور للضبّاط المنشقين فيما تخضع تلك الفصائل بمجملها لتركيا ودول أخرى، علاوةً على أن الضباط المنشقين المنخرطين في مشروع المعارضة لا يحظون بأدنى تقدير أو حضور، وبحسبك أن تلحظ حجم لواء مكتنز منشق مثل سليم إدريس وهو بكامل قيافته العسكرية ورتبه يسير لاهثاً في ركب قائد فصيل “سليمان شاه” سيء الصيت المدعو أبو عمشة!

إن أبسط افتراض كان من الممكن أن ينطلق منه أصحاب فكرة المجلس العسكري هو أن يكون لديهم “جيش” فيما واقع الحال يدلّنا إلى فصائل تمتثل لأوامر دول أجنبيّة وفصائل أخرى متطرّفة مدرجة على لوائح الإرهاب، كما أنّ زعم وجود أكثر من ألف ضابط منشق بينهم قلّة من الضبّاط الأمراء وبعض المتقاعدين المقيمين في تركيا ممن باتوا منخرطين في الحياة المدنيّة لا يرفع من أهمية مثل هكذا طرح.

ويفرض الانسداد السياسي المديد على سوريين التفكير في حلول قد يكون بعضها عبثياً وبعضها الآخر حالماً، وبمعزلٍ عن التفتيش في النوايا، تبقى الطروحات والحلول غير الواقعية واحدة من مآسي المعارضة غير المجرّبة أو التي لا تمتلك أدوات السياسة الفعلية والتي تصرّ على طرح ما تراه حلولاً، لكنها حلول لا تنسجم والواقع السوريّ وطبيعة الأزمة، وبافتراض أن فكرة المجلس العسكري هي واحدة من تلك الحلول غير الواقعية، فإنّ السؤال يصبح: ترى ما الفكرة غير الواقعية التالية؟