“شاكر لوند” مسن في ريف ديرك.. ذاكرة فريدة ومنجم للقصص الشعبية

ديرك – نورث برس

في منزل ريفي متواضع بمنطقة ديرك (المالكية) أقصى شمال شرقي سوريا، يتمتع شاكر إبراهيم لوند (90 عاماً)، بجسم خفيف يساعده على سرعة التنقل والحركة، لكن ما يثير الإعجاب به أكثر من المحيط هو تمتعه بذاكرة ثاقبة، إذ من السهل عليه سرد تفاصيل دقيقة لأحداث عاشها قبل نحو 80 عاماً.

ولا تبخل عليه ذاكرته الغنية في استحضار عشرات القصص والمرويات التاريخية التي التقطها شفاهاً من أشخاص يكبرونه سناً قبل عقود، حول أحداث جرت مع أجداده في جزيرة بوطان (ابن عمر) جنوب شرقي تركيا نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

وبالرغم من فرادة ذاكرة “لوند”، إلا أنه ليس الوحيد ممن بقي من أبناء جيله على قيد الحياة يملك هذه الميزة.

فقد تصادف في أرياف منطقة الجزيرة عموماً معمرين يملكون قدرات مماثلة في التمكن من سرد تفاصيل من الماضي بأسلوب يشعر المستمع بمشاهدة شريط مصور.

وفرضت ظروف وطريقة العيش عليه كما على غيره من الطاعنين في السن خلال العقود الماضية نمطاً خاصاً على طريقة تعاملهم مع الماضي أو الحاضر فترة شبابهم.

يقول الرجل الذي قضى عقوداً من حياته في تربية ورعي الماشية: “كان في كل قرية مضافة يجتمع فيها الرجال فترة المساء. كان كبار السن يروون الأحداث الماضية والجارية.”

ويضيف: “كان حينما يتحدث أحدهم ينصت له الجميع حتى ينتقل حق التحدث إلى آخر.”

ففي ظل عدم وجود مدارس سوى كتاتيب لتعليم قراءة القرآن الكريم في القرى الكبيرة، كان لا بد لـ”شاكر لوند” ومعاصريه أن يعتمدوا على ذاكرتهم في حفظ المجريات اليومية البارزة وما يتلقفونه من مرويات شفاهية عن كبار السن.

وكانت هذه المضافات بمنزلة مدارس يتلقى فيها الحاضرون المعلومات بمنتهى العفوية والبساطة.

“الآن، اختلفت الأحوال. أفراد العائلة ينهمكون في مشاهدة التلفاز والهواتف المحمولة. ليس لديهم الوقت والاستعداد للاستماع إلى قصصنا. قصص التراث والفلكلور.”

صفحات من الذاكرة

يتذكر الرجل المسن تفاصيل بناء الكثير من بيوتات قريته “كلهي” على الحدود السورية العراقية مطلع أربعينيات القرن الماضي.

ويقول: “كان ذلك في العام 1942، كان حينها الفرنسيون في المنطقة إلى أن رحلوا في العام 1946. كنت شاهداً على بناء الكثير من منازل عائلات القرية. أتذكر تلك المرحلة بتفاصيلها.”

ولا يكاد ينفك يصف نفسه وأبناء جيله بـ”أصحاب الذهن القوي والعبقري”، مبرهناً على ذلك بسرعته في حفظ القصص والحكايات التاريخية.

يقول: “لدي القدرة على حفظ أية قصة بتفاصيلها بمجرد سماعي لها للمرة الأولى.”

يعود “لوند” بالذاكرة إلى عقود خلت حينما قدِم “حجي حسن” وهو أحد أقاربه من جزيرة بوطان في تركيا، على خلفية مقتل والده هناك وتعرض بعض أفراد عائلته للملاحقة ما اضطروا للنزوح نحو سوريا والاستقرار فيها.

تقول القصة التي تلقفها “لوند” في وقت سابق، إن شمو حمو وهو والد حجي حسن، كان مستشاراً لبدرخان بك الذي كان أميراً على منطقة بوطان أواخر زمن السلطنة العثمانية. طلب “شمو” من أميره الخروج عن طاعة السلطنة وعدم دفع الإتاوات وإرسال الشبان للالتحاق بالجيش.

“تجمع شبان ورجال عدة قرى مدججين بكامل أسلحتهم في الجزيرة لمقاومة القوات العثمانية التي حاصرت الجزيرة طيلة شهر كامل ولم تتمكن من اقتحامها.”

لكن ما حدث لاحقاً من هجوم كبير تسبب بمقتل “شمو حمو” مستشار الأمير الذي طالب بالخروج عن طاعة الدولة.

وبعد مقتل مستشاره استسلم الأمير وبدأت ملاحقة أسرة “حمو”، ليتجه بعض أفراد أسرته إلى ديرك في سوريا.

كيف يقضي وقته؟

رغم تقدمه في السن، لا يكاد “لوند” يضيع جهداً في زيارة أقاربه في مدينتي ديرك والقامشلي، إذ يحاول بين فترة وجيزة وأخرى أن يسافر إلى إحدى المدينتين ليقضي أياماً ويعود إلى قريته.

ويقول إنه يحاول على الدوام القيام بزيارات متبادلة بينه وبين من بقي من أبناء جيله في القرية ليسردوا معاً قصص الماضي.

ولا يبخل بمعلوماته لكل من أراد سؤاله عن أي حادثة تاريخية، ولاسيما تلك الأسئلة التي ترده من متقدمين في العمر والذين يطلبون منه سردها في مجالسهم التي يستلم فيها شاكر زمام الحديث.

وفي أوقات فراغه يتفقد حديقة صغيرة للخضار أنشأها في فناء الدار، ويقضي بعض ساعات يومه جالساً أمام باب المنزل متأملاً المارة.

ولا يخفي شاكر لوند، حنينه للماضي الذي يفضله على الحاضر، حيث كان هناك “اهتمام وحب واحترام أكثر من الآن.”، كما لا يخفي أمنيته في أن يتم توثيق ما يحفظه من قصص “كي لا تضيع.”

إعداد: سولنار محمد – تحرير: حمزة همكي