جاكوبينية البعث ومأزق الهوية السياسية السورية

الهوية عملية اجتماعية تراكمية، وعندما نقول تراكمية نشير إلى العامل الزمني أي التاريخي إذ لا يمكن تشكيل هوية مشتركة لمجموعة بشرية بإرادة سياسية دولية فقط.

واليوم أصبح الحديث عن أزمة الهوية رائجاً في كل الدول تقريباً ولكن الأزمة ليست ذاتها في جميعها. وقد يقول البعض أن أزمة الحكم أو السلطة في سوريا سببها أزمة الهوية السياسية السورية التي لم تتكون بشكل صحيح ولم تأت عبر عملية تراكمية تاريخية.

وسوريا، بمفهومها السياسي، دولة حديثة كدول الجوار نشأت باتفاقية سايكس بيكو الدولية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية.

وتم الإعلان عنها ثم تأسيسها كجمهورية، ورسمت حدودها بين أخذ ورد في مناخ الحربين العالميتين الأولى والثانية من قبل بريطانيا وفرنسا اللتين حددتا جغرافيتها السياسية.

وجاءت ولادة سوريا، كغيرها من دول الجوار، في مرحلة صاخبة وصراعات دولية في شرق معقد الفهم على المفكر الغربي آنذاك، وكان للجنرال ديغول خلال الحرب العالمية الثانية مقولة شهيرة وهي “أطير لشرق مقعد بأفكار بسيطة” وهكذا وببساطة رسمت حدود المنطقة وتم تقرير هويات شعوبها السياسية.

وأن تكون عثمانياً لأربعمئة عام ثم تتحول لمواطن دولة جديدة لم تحدد هويتك فيها بوضوح، لهو حتماً شيء محير لساكن تلك البقعة، فمن الصعب أن يتحول الرعايا العثمانيون لمواطنين سوريين دون توضيحات، ولكن عملياً هذا ما حصل.

وكان العثمانيون يحكمون بطريقة لا مركزية, تاركين بعض المساحات للحكم الذاتي، وكان العهد العثماني أشبه بالأنظمة الأوروبية في عهد الإقطاع، حيث كان للسكان الحريات الكاملة بالتحدث بلغتهم وتقرير قوانينهم المحلية.

ولم تكن فكرة العدالة الاجتماعية أو التطور هاجساً لحكام الدولة العثمانية ودول أخرى آنذاك، خصوصاً في مراحل السقوط حيث كانت اهتمام السياسة موجهاً للحروب.

وبعد تفتيت الإمبراطورية العثمانية نشأت في المنطقة هوية عربية جديدة لا تشبه تلك التي كانت من قبل، وشاءت النخبة السورية ربط الهوية العربية بالهوية الإسلامية باكراً منذ مرحلة الثورة العربية الكبرى، ولم يجرؤ منظرو حزب البعث الخروج عن هذه القاعدة، رغم كون منطقتنا لها خصوصياتها التعددية الدينية والثقافية والأثنولوجية ورغم وجود عشائر عربية مسيحية وغيرها، حتى أنه قيل أن ميشيل عفلق المسيحي الأرثوذوكسي، وهو أحد أهم مؤسسي حزب البعث، أشهر إسلامه لاغياً بهذا حق انتماء العربي لغير المسلمين.

وفي الواقع الهوية العربية أقدم من الهوية الإسلامية المستمدة من  القرآن الذي خاطب الناس في الجزيرة العربية باللغة العربية. ويوثق التاريخ وجود عشائر عربية مسيحية ويهودية في المنطقة سمح لهم بالبقاء في عهد الرسالة، وما زالوا ليومنا هذا يتبعون أديانهم كالعشائر المسيحية في الأردن واليهودية في اليمن.

ولربما المحير في الوضع السوري هو أن ميشيل عفلق ومن معه كانوا أشد رفضاً لمسألة التعددية وأكثر اضطهاداً من مرحلة ظهور الإسلام، فلا المسلمون ولا العرب كانوا يطالبون بتعريب الدولة السورية أو أسلمة الدولة قسراً.

والعرب كغيرهم من المسلمين كانوا قبل هذا العهد يشعرون أنهم في ديارهم وكان لكل طائفة قوانين داخلية تكرس خصوصياتها.

وكان انقلاب حزب البعث واستيلاؤه على الدولة من أبرز تناقضات نشوء الدولة السورية ولكنه ليس وحده المسؤول عنها، فتلك كانت الإرادة الدولية لسوريا.

ولكي نفهم هذه النقطة لا بد أن نتوجه إلى باريس ونعبر التاريخ للمرحلة التي تزامنت مع نشوء البعث, ولكي نفهم بعمق أكثر لا بد أن نعود أكثر لما قبل عقود، أي للثورة الفرنسية التي مثلت أفكارها نشأة الفكر الاشتراكي الذي أثر في كل القارات، كما أن هناك أيضاً أيديولوجيات موازية ظهرت آنذاك وكان لها امتداد واسع قبل التطور الحديث لمفهوم الدولة في الغرب وهي الإيديولوجية الجاكوبينية التي أسست الدولة الفرنسية.

وكان تعريف الجاكوبينية، حينها، يتلخص بتكريس سيادة الشعب ووحدة الجمهورية والشعب، وربما كانت ضرورة حتمية مقبولة حينها، ولكن في العصر الحديث تم انتقادها وأصبحت في المناهج الفكرية الحديثة ترمز لبيروقراطية الدولة ومركزيتها أو بالأحرى تطرف مركزية القرار فيها, واحتكارها لرأس الهرم وبيد نخبة من تكنوقراط يمثلون الدولة، ودورهم هو بسط سلطة القرار المركزي بديكتاتورية عبر كافة القطاعات وعلى كافة المستويات وفي كل أرجاء الجمهورية.

ويبدو التيار الفكري المعارض للجاكوبينية، فرنسياً، ما يسمى بالمناطقية، وهذا الفكر يصبوا لترك مساحات من القرار الذاتي للمواطنين في مناطق تواجدهم, وكان هذا الفكر الجاكوبي التوجه، الذي كان سائداً في فرنسا الاستعمارية آنذاك، هو من أسس منذ قرن أي في عشرينيات القرن الماضي فكر حزب البعث العربي الاشتراكي الذي مازال شعاره “وحدة، حرية، اشتراكية” مع تناقض صارخ في مفهوم الحرية, ويؤكد التاريخ أن نواة الحزب الفكرية تأسست في فرنسا قبل حصول سوريا على استقلالها الرسمي بما لا يقل عن عشر سنوات.

فسوريا لم تكن تحت سلطة الاتحاد السوفييتي بل كانت مستعمرة فرنسية تحت الانتداب، وعاد ميشيل عفلق من فرنسا إلى سوريا عام 1932 بمشروعه ليناضل مع رفاقه لأجل حصول حزبه على السلطة بطريقة عسكرية ديكتاتورية.

أما عن تطور الحزب، فلقد تحول مع التغيرات التاريخية لأداة لخدمة السلطة الديكتاتورية ولكن بقيت أيديولوجيا التناقضات ذاتها التي لم يتراجع عنها حاملو الفكر القومي حتى في صفوف المعارضة.

وأما كيف نعيد بناء ما لم يُبنَ جدياً، أي الهوية السورية، فهذا حقل عمل واسع يستحق الاستثمار فيه، فالسوريون يملكون كافة المقومات للتأقلم مع مفاهيم عصرية للمواطنة والانتماء.