أربيل ـ نورث برس
في حديقة بمدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق يبرع الموسيقي الكردي السوري غني ميرزو في العزف بأنامله مستغنياً عن الريشة، فما يميزه في تنقلاته المتكررة بين برشلونة وأربيل والقامشلي وحلب، أنه قد يستغني عن أي شيء إلا آلة العود فهي تلازمه على الدوام.
يشتهر “ميرزو” (53 عاماً) بدمجه في مقطوعاته بين الموسيقتين الشرقية والفلامينكو الإسبانية وهو ما جعل رصيده حافلاً بإنتاج موسيقي فريد.
ومنذ سنوات يواظب الموسيقي على تقسيم وقته بين الاشتغال على مقطوعات جديدة وبين العمل الفني من خلال مؤسسته التي انطلق نشاطها في العام 2019 باسم “ميرزو ميوزيك”.
“سجن كبير” وفرار للموسيقا
كان ذلك في العام 1989 عندما أنهى دراسته في المعهد الموسيقي بحلب، بعد أن اكتسب خبرة واسعة على يد “الأساتذة نوري إسكندر ومحمد قدري دلال وآخرين.”
يقول: “عندما أنهيت دراستي في المعهد، أحسست بوجود نقص فني لدي، ومن ناحية أخرى ككرد كان الاضطهاد بحقنا يتعدى السياسة إلى الفن. كان ممنوعاً إحياء حفلة أو أي نشاط كردي. لقد شعرت بأنني أعيش في سجن كبير اسمه سوريا.”
في البداية لم تكن إسبانيا وجهته الأولى، فقد حاول الحصول على منحة دراسية قد توصله إلى ألمانيا، وبالفعل حصل على المنحة لكنه غير قراره بسبب قبوله في أقسام لم يكن يرغب بدراستها وبعد أن قضى نحو ستة أشهر في تعلم الألمانية.
ويبدو أن شغفه بموسيقا الفلامينكو كان سبباً رئيسياً لتوجهه إلى إسبانيا في العام 1993.
“كنت أسمع الفلامينكو أثناء سنوات دراستي الأربعة في حلب وتعلقت بها. لقد شعرت أن الفلامينكو والموسيقا الشعبية الإسبانية هي الأقرب إلى موسيقانا الشرقية.”
ولم تمض سنوات حتى ذاع صيته في مدينة برشلونة وغنى على أكبر مسارحها ولكن الحفلة الأولى لم تكن في برشلونة: “أولى حفلاتي كانت شرقي إسبانيا بالقرب من الحدود البرتغالية في جامعة كاثاسرس. بناء على دعوتهم عزفت هناك على العود عام 1994.”
في المعهد العالي للموسيقا “ليسيو” عام 1994، بدأ بدراسة الفلامينكو وتخرج بعد ستة أعوام، ومنذ عام 2016 بدأ برحلة جديدة في دراسةٍ أكثر احترافية في ليسيو، “ربما أنهي دراستي هذا العام.”
ويقول: “كانت هناك تجارب بسيطة بين المغرب العربي وإسبانيا قبل أن أبدأ بتقديم هذا النوع من المقطوعات، وعدا ذلك لم أعثر على شيء سابق لما قدمته.”
لكن وبعد أكثر من عشر سنوات من دراسة الفلامينكو يجد “ميرزو” أنه لا يزال تنقصه الكثير من المعارف الموسيقية: “الموسيقا بحر لا نهاية له. تركت حلب لإكمال ما ينقصني فنياً وما زلت أحتاج الكثير.”
في جعبته الموسيقا وكفى
يستعير ميرزو مصطلحات فن العمارة ليضعنا في صورة مشروعه الفني: “هي عملية هدم وبناء، كسر الأغاني وجمع النوط ومزجها بصورة جديدة مثلها مثل عملية هدم بناء قديم وإعادة إعماره مجدداً، لكن مع المحافظة على جماليته الأصيلة.”
“روني” كان اسم أول ألبوم موسيقي له عام 1999 ليلحقه بألبومات “توتيكو، الموسيقا التصويرية لمسرحية ألف ليلة وليلة، مخيم دوميز، وألبوم موسيقي مشترك مع مجموعة فنانين.”
وأطلق ابن مدينة القامشلي مؤسسة “ميرزو ميوزيك” التطوعية في أربيل، بغرض “دعم الفنانين وإعادة التأهيل النفسي بالموسيقا للاجئين والنازحين.”
لكن الأمر لم ينته هنا فقد افتتح معهداً لتعليم الموسيقا في ناحية خانصور التابعة لقضاء سنجار في إقليم كردستان العراق، ويقول عن ذلك: “أثبتنا أننا نعمل لأجل الفن والإنسانية دون أي تسييس لعملنا.”
ولم يكد ينطلق نشاط “ميرزو ميوزيك”، حتى جمعت 250 آلة موسيقية متنوعة في إسبانيا وعموم أوروبا، ليتم نقلها إلى الجزيرة وكوباني شمال شرقي سوريا، وتوزيعها على معاهد وفرق موسيقية لمختلف مكونات المنطقة.
قصص شغف وجوائز عالمية
يتفق أهل الموسيقا أن الفنان يتمسك بآلته الموسيقية تمسكه بطفل أحياناً، ولكن وزيرة الثقافة في إقليم الباسك بإسبانيا منحت كمانها لـ”ميرزو”.
يتحدث الموسيقي عن قصة الوزيرة: “كانت تبكي وهي تعطيني آلة الكمان. لقد رأت أن المكان المناسب للكمان الآن هو سوريا، ليعلوا صوت الموسيقا على أصوات القصف والحروب، وليصل الكمان في نهاية المطاف ليد طفلة في كوباني.”
تتعدد القصص التي صادفها “ميرزو” وهو يجمع الآلات الموسيقية في إسبانيا من فنانين تبرعوا بآلاتهم لتصل إلى سوريا، “كانت بعضها باهظة الثمن جداً.”
فكرة جمع الآلات في إسبانيا وأوروبا عموماً وإيصالها إلى يد أطفال كوباني والجزيرة ومعاهد الموسيقا، تحولت إلى فيلم وثائقي تم عرضه في 300 مهرجان ونشاط سينمائي حول العالم.
وشارك “ميرزو” بطل الوثائقي وصاحب الفكرة في بعض تلك المهرجانات: “حضرت بعض عروض الفيلم. كنت ألاحظ أن الهدوء والرهبة ينتابان المشاهدين عند رؤيتهم لمشاهد الدمار في كوباني والرقة وغيرهما من مدن سوريا.”
ويضيف: “تأثر الناس برؤية مشاهد العزف والموسيقا في أماكن مدمرة، لقد أحيا ذلك لديهم الحالة الإنسانية.”
وحصد فيلم “هارموني ما بعد الحرب” الذي أخرجه الأرجنتيني الإسباني بابلو توسكو الذي وثق العديد من الحروب والمآسي حول العالم، 25 جائزة في مهرجانات دولية مختلفة.
ومن الجوائز التي حصدها كانت جائزة أفضل فيلم في مهرجان Roca في إسبانيا، وجائزة أفضل فيلم بمهرجان Sole de Luna في إيطاليا، وأفضل فيلم في المكسيك بمهرجان حقوق الإنسان Tijuana.
لسوريا هوية موسيقية موحدة
تشهد الساحة السياسية السورية نقاشاً عمره سنوات وقد يمتد لسنين أخرى حول هوية سوريا وشكل نظام الحكم فيها ولكن الأمر موسيقياً محسوم بالنسبة له.
يقول: “هناك هوية سورية واحدة تشكلت نتيجة للعيش المشترك بالرغم من دكتاتورية النظام الذي ركز على دعم المركز وتهميش الأطراف ثقافياً وفنياً.”
ويرى “ميرزو” أن “النظام” كرس استبداده حتى في الفن: “مع تقديري لدمشق كمدينة كبرى وعريقة، لكنها من الناحية الفنية تعد الأفقر مقارنة بالسويداء، درعا، حلب، والقامشلي وغيرها من المحافظات، ولكن النظام أصر على تهميش العديد من المناطق السورية من الناحية الفنية.”
ويجد في بعض أعمال المؤلف الموسيقي نوري اسكندر “خير مثال” على الهوية السورية الفنية المشتركة.
لكن ما يهمه من كل ذلك أن ينطق فناً حيثما حل، حاملاً آلة العود لا يفارقها ولا تفارقه. ما يهمه أيضاً أنه نجح في إشباع دمار الحرب وركامها موسيقا.