اغتيال التاريخ.. جرائم باسم الحرب على الأصنام

انطلقت هذا الأسبوع حملة مبادرات لتكريم الشهيد خالد الأسعد بعد رحيله بأكثر من خمس سنوات في أعقاب حديث عن اكتشاف موضع جثته في تدمر، وقد شاركت في التكريم اليونسكو وهيئة الإذاعة البريطانية وجامعة الدول العربية.

وخالد الأسعد لمن لا يعرفه أكبر عالم آثار سوري، ولد عام 1933م وهو أكبر “الشهداء” الأبرار الذين قضوا ذبحاً على يد الإجرام “الإرهابي”، يوم دخلت “داعش” مدينة تدمر، 19/8/2015 حيث وجد رأسه معلقاً على أحد الأعمدة وسط تدمر بشكل وحشي، وعليه لافتة: “المرتد خالد الأسعد حارس الاصنام!!”.

لن يقدم هذا المقال معلومات جديدة، فالعالم الأخضر يمتلئ بالمعلومات عنه، والقراء يعرفون تفاصيل كثيرة عن هذا العالم السوري النادر وعن إخلاصه وتفانيه في خدمة التراث السوري، وعن شغفه بالآثار السورية إلى درجة العبادة.

ولكن السؤال الذي أود طرحه اليوم… لماذا قتل خالد الأسعد تحديداً؟.

يجب أن لا نكون ساذجين، وبإمكاننا افتراض عدة روايات تم تسويقها ومنها أنه رفض تسليمهم آثاراً محددة كان قد سلمها لوزارة الثقافة قبل أن يصل الجيش الغازي، وقد صرحت وزيرة الثقافة يومها بأن الآثار النفيسة تم ترحيلها إلى دمشق قبل وصول “الدواعش”، فقد كان النظام يعلم الوقت والتاريخ والمكان والزمان الكامل لمغامرة “داعش” في دخول تدمر واستباحتها!! ومع ذلك فقد كان مشغولاً بالمعارك في سوريا المفيدة، والبراميل الوطنية التي كانت تقتل البشر والحجر، وأعلن النظام حينها أننا قد ننسحب من بعض الأماكن انسحاباً تكتيكياً، وللأسف فقد وقع هذا الحظ البائس مرتين على بالميرا عاصمة الصحراء ومجد سوريا الخالد.

ولكن ذلك في رأيي ليس الجانب الأهم في المأساة، أو على الأقل ليس مهمتي كمصلح ديني، ولا بد من الاعتراف بأن الدافع الأكبر الذي دفع المحاربين “الدواعش” المتحمسين للبحث عن خالد الأسعد وقتله بهذا الشكل المتوحش هو أنهم كانوا يعتقدون أن تدمر مدينة أصنام وأوثان وأن هذا الرجل هو سادن الأصنام وهو آزر وأبو لهب وأبو جهل وأن شأن المواجهة مع الأصنام أن نطمسها فلا ندع منها صورة وأن نبطش بسدنتها وحراسها ونجعلهم للناس نكالاً، وأنهم حين ذبحوه كانوا يذبحون سادن هبل!!.

كل المؤسسات الإسلامية العلمية أدانت العمل المتوحش، ولا أعتقد أن أي جهة إسلامية رسمية في العالم سترحب بتوحش كهذا، ولكن يجب أن نعترف أيضاً بأننا لم نغير في تعليمنا حرفاً واحداً عن علاقة الإسلام بالتماثيل، فما زال مشايخنا في المساجد والمعاهد الدينية يصدرون عن رأي واحد وهو أن الحرب مستمرة بين الإيمان والأوثان، وأن التماثيل بكل أنواعها كفر ومعصية وشرك، والفتوى محسومة لا يجوز فيها اجتهاد، وهي نص في صحيح مسلم منسوب لعلي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله؟ أن لا أدع تمثالاً إلا كسرته ولا صورة إلا طمستها ولا قبراً إلا سويته!.

إنهم يفتون في التمثال بصيغة واحدة وهي وجوب تحطيمه لأنه مضاهاة لله في خلقه، وأما حارسه وحاميه فالفتوى فيه واحدة أيضاً وهي أنه مقيم على الكبائر والشرك، وأنه يستتاب وإلا قتل، أما رؤوسهم ومقدموهم فإنهم يقتلون بلا استتابة!

وحين قام “الدواعش” بتفجير معبد “بل” فقد وقع ذلك في وعي شباب الإسلام الغاضب بأنه انتصار الإيمان على الكفر وانتصار الله على الشرك!!.

هكذا علمنا مشايخنا وهكذا لا زالوا يعلمون…!!

لن تجد في العمائم الإسلامية شجاعاً واحداً يفتي بغير ذلك، ويقول إن التماثيل فن راق وجميل وأنه يستحق أن يكرم ويمجد ويستحق أن يكون تراثاً غنياً للبشرية.

لن تجد شجاعاً يقول عن هذه النصوص إنها جديرة بالمراجعة حتى لو كانت قرآناً أو سنة، وأننا قادرون أن نسقط ظرف الزمان والمكان على النص الأول ثم نتحول عنه حين نتحول إلى زمان ومكان آخر.

لقد كان آباؤنا أكثر شجاعة منا حين وقفوا بشجاعة أمام نصوص قرآنية كريمة وأعلنوا أنها مقيدة بزمان ومكان مخصوصين وأنها ليست سرمدية في الأبد، ونصوا على النسخ في عشرات الآيات، ولم يتردد ابن الجوزي في الحكم بأن المنسوخ في القرآن نفسه يزيد على 240 آية، وأننا مأمورون بالنظر في حاجاتنا وظروفنا بعيداً عن ظاهر النص، وقريباً من روح النص.

حتى اليوم لا أعلم أن فقيهاً اقترب من مواجهة مسألة التماثيل بروح مسؤولة، وحتى لو كانت أصناماً تعبد من دون الله، فهذا لا يبرر أن نكون هدامين للحضارات، وعلينا أن نقول إن ما جرى في الحجاز قبل أربعة عشر قرناً لا علاقة له بما يجري في العالم اليوم، فالتمثال اليوم جزء من التراث وجزء من العلم وجزء من المعرفة، وواجب الأمة حمايته وصيانته والدفاع عنه، ورصد الموازنات من أموال المسلمين لتوفير حراسته ودراسته وقراءة التاريخ فيه.

الأمم الوثنية أو التي تروج فيها الوثنية كالصين والهند ونيبال وتايلاند والفلبين هي أمم حقيقية وصديقة، نحتاج إلى بناء أوثق العلاقات مع تلك المليارات العظيمة من البشر، وعلينا أن نتخلص من إرث الكراهية الذي صنفهم في مشاعرنا ككفرة مارقين حدهم في الأرض السيف وفي الآخرة جهنم وبئس المصير!!

كانت تكفينا آية لكم دينكم ولي دين لنقيم أنجح العلاقات مع الأمم، ولكننا نمضي في حربنا على التمثال فنجعل كل أمة فيها أيقونة أو تمثال أمة مشركة تستحق عموم الآية فاقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم، وينص الفقه الشافعي والحنبلي تحديداً أن الأمم الوثنية لا يجوز معها صلح ولا عهد ولا جزية، ولا يخيرون بين الإسلام أو الجزية كأهل الكتاب! بل إن التكليف الشرعي المنوط بالأمة هو قتالهم إلى النهاية على منطق الإسلام أو السيف!!!

هذا على الأقل هو نص الفقه المنهجي الذي لا يزال يدرس في سوريا في معاهد وزارة الأوقاف بدون تحفظ ولا تردد. (انظر كتاب الفقه المنهجي ج8 باب الجهاد).

ليست مصالحة بين التوحيد والشرك، وليست تصويباً للجميع فلا يقول بصواب المتناقضات إلا مجنون، ولكنها دعوة للوعي بدور التمثال في الحياة كوسيلة علم ووسيلة جمال وأداة تاريخ وأداة تخليد، وأن اعتقاد الخلق والرزق فيه لا يصدر من مجنون، وأنه إذا صدر من مجنون فالواجب تعليم المجنون ليكفَّ عن جنونه، وليس تحطيم الأثر التاريخي لنبقى أمة بلا ذاكرة.

يجب أن نعترف بأن هذه الفتوى التي نفذت في تدمر قد سبقتها فتاوى مماثلة ملأت الجزيرة العربية كلها في غمار قيام الحركة الوهابية وكان من نتيجتها أنها دمرت كل آثار الإسلام في جزيرة العرب، من قباب وقبور ومراقد ومزارات، ولا توجد أمة بائسة في الأرض بلا آثار كحال هذه الأمة.

علنيا أن نعترف بوضوح أن فقه التماثيل بحاجة إلى مراجعة شاملة، وإذا كان للرسول موقف منها فعلينا أن نحدد علة ذلك الموقف، فقد كانت أوثاناً تعبد وكان الناس حديثي عهد بجاهلية وكان الصنم مركز الحرب والتجنيد للحرب على الإسلام والمسلمين، ولم تكن لهذه الأصنام قيمة تاريخية ولا فنية، وفي هذا السياق اندفع الرسول الكريم وحطم تلك الأصنام…

ولكن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وقد أصبحنا في عصر آخر ومكان آخر وزمان آخر وبات من واجبنا أن نحرر الحكم بعلته وأن ندور مع علته وجوداً وعدماً.

تاريخنا حافل ببطولات تحطيم التماثيل، ونرويها على منابرنا بحماسة عندما نذكر الفتح الإسلامي لكل بلد، ونشيد بالفاتحين الذين دمروا كل هذه الأوابد، وفي متحف دمشق المدني في فكتوريا تماثيل لأباطرة الرومان وقد قطعت رؤوسهم، ونروي ذلك كله بفخر واعتزاز، ونسجله في كتبنا ونؤصّله بالأدلة من كلام السلف، ونعتبرها حرباً مستمرة بين الله وبين الشيطان، وحين ينهض من يكتب بقلم ناقد لممارسات الفتوحات العسكرية الضارية تتولاه فتاوى التكفير والزندقة، ويتلقى ألف اتهام بالردة والتشكيك بالصحابة وازدراء الدين، والتآمر مع الأصنام، وهذا يتكرر كل يوم في مدراسنا ومعابدنا ومعاهدنا وكتبنا الفقهية وعلى ألسنة مشايخنا في الفضائيات، وفي النهاية فحين يظهر من تلاميذنا من يحمل الفؤوس ويحطم الآثار ويفجرها ويذبح حراسها فإننا نتحول مباشرة لنقول: إنهم صناعة أميركا!!.