ظلال داعش

كان من المتوقّع ألّا يسقط تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي أقام حكماً بالغ القسوة والإرهاب كما تسقط الدول والحكومات، ذلك أن تنظيم داعش شأنه شأن تنظيمات أخرى قليلة امتازت في جعلها القسوة والإرهاب جزءاً من نظرية عمل، بمعنى أن التنظيم سيبقى طالما أنه قادر على ممارسة القتل، فيما كان رأسماله الرمزيّ حفلات الإعدام المسرحيّة العلنيّة والمصوّرة، والمستلّة من بطون كتب التاريخ التي تُحدّثنا عن “فنون القتل” البشعة والتي من شأنها  منح التنظيم نسغ الحياة عبر البقاء في أذهان الناس حتى وإن غاب التنظيم عن الأعين.

وفي وقت مبكّر من عمر داعش، خرجت الوثائق التي حصلت عليها صحيفة دير شبيغل الألمانية إلى العلن، والتي عثر عليها في تل رفعت وكانت بحوزة القيادي البارز في التنظيم حجي بكر أو سمير عبد محمد الخليفاوي، العراقي الجنسيّة، وكشفت عن الشكل الهرمي للتنظيم وطريقة سيطرته على مناطق في شمال شرق سوريا لتتحوّل تلك المناطق إلى منصّة عمل عسكري وتنظيمي يمهّد الطريق أمام غزو مناطق شاسعة من العراق فيما بعد، لكن التكتيك الأهم الذي يصلح في جميع الأطوار التي مرّ فيها داعش تمثّل في مسألتي الابتزاز والاغتيال، ذلك أنّ من بين المخطّطات التي كشف النقاب عنها كان الابتزاز باعتباره أبرز السبل لتهديد الأفراد، كالبحث عن السوابق الجرمية والميول الجنسيّة “الشاذّة” لأفراد يمكن أن يطويهم التنظيم تحت جناحه، وكذلك جاءت الاغتيالات للشخصيّات التي من الممكن أن تشكّل قوّة اعتراضية في وجه تمدّد غول التنظيم واتساعه كاغتيال الوجهاء العشائريين والمثقّفين والنشطاء السياسيين والمدنيين.

وعند النظر إلى طبيعة النشاط المؤسِّس للتنظيم يمكن ملاحظة مقدار دقّة تسمية الصحيفة الألمانية للتنظيم بأنه “تنظيم مخابراتي إسلاميّ”، وأنها على نحو ما استشفَّت من مخطّطه التنظيمي أنّه استقى هرميته التنظيمية من بناء وزارة الأمن في ألمانيا الشرقيّة (شتاسي)، والتي كانت مخابرات النظام العراقيّ بدورها قد استقت منها الكثير، ولعل مشاهد الإعدامات المروّعة والمصوّرة  مثّلت ذروة التشابه بين مسلك الترهيب الداعشيّ مع ما كان يبثّه النظام العراقي في تلفزته الرسمية من قطع للأيادي والرقاب وكذا حفلات التعذيب الفظيعة في الحقبة التي تلت حرب الخليج الثانيّة.

العنوان العريض الذي خُطّ بعد معركة الباغوز الحاسمة 2019 كان يحمل دلالات طيّ صفحة “الخلافة” مرة وإلى الأبد، إلّا أنّ ما أبدته الأيام كان عصيان التنظيم على الزوال، تبعاً للموارد البشريّة والماليّة التي راكمها خلال حقبة حكمه، والحديث هنا عن آلاف المقاتلين ممن لم يتم تحييدهم أو اعتقالهم في سوريا والعراق، والموارد المالية الكبيرة التي أجاد التنظيم إخفاءها، والأهم أن هيكل التنظيم يسعفه في البقاء ومقاومة الظروف المحيطة، فضلاً عن أن الخلافات وانعدام التنسيق أو ضعفه بين القوى المتواجدة في شمال وشرق سوريا يعطي التنظيم شيئاً من هامش للحركة.

في هذه الغضون تنشط داعش في البادية السوريّة، وفي شرق سوريا على وجه الخصوص، عمليات التفخيخ والإغارة والاغتيالات تسير بشكل متواتر، في حين  يبسط التنظيم سيطرته النسبيّة على القرى القصيّة عبر فرض الإتاوات تحت مسمّيات الحماية أو الزكاة. والغالب على الظن أنّ داعش فقد كل أفق لاستعادة دوره السابق وهو بذلك يتقبّل وضعه الحالي، أي القتال من أجل البقاء على قيد الحياة لا لأجل استعادة “الخلافة”، ولكنه في إزاء ذلك ما يزال يحافظ على تسمياته الهرميّة، حيث الخليفة الذي بلا خلافة، والأمراء بلا إمارات، الأمر الذي يشبه أعراض وهم مرضيّ يسمّى “الطرف الشبح” حيث يعتقد المريض الذي بُترت ساقه أنّه قادر على تحريكها أو أنّه يشعر بحكّة في العضو المبتور، على هذا النحو تشعر داعش بأنها خلافة ما تزال قائمة رغم أنّ الخلافة بُترت في حقيقة الأمر.

ورغم أننا طوينا شهراً من عام جديد، ما تزال معضلة أسر مقاتلي داعش والمخيّمات قائمة، ومسألة المقاتلين الأجانب ما تزال بحاجة إلى حلول عمليّة، أمّا مسار العفو عمّن لم يتورّط في أعمال قتل بضمانات ذويهم تبقى من أنجع سبل الاحتواء إلى جوار عدم إيقاع عقوبة الإعدام على المتورطين في أعمال القتل ومرتكبي الجرائم والتي ساهمت بدورها في عدم تنامي المشاعر السلبية من الإدارة الذاتيّة، لكن المسألة الأساسية التي تعرقل مسار تعقّب داعش تنطوي على خشية المجتمعات المحلّية من انسحاب قوات التحالف وتراجع قسد عن حماية المنطقة لأسباب خارجة عن إرادته، إذ يعني تحقّق مثل هذا التصوّر عودة عمليات الانتقام، وربّما العودة إلى سيرة العنف الأولى التي مهّدت الطريق لسيطرة داعش على مناطق شاسعة وحيوات بشر ومصائرهم لعدّة سنوات.

وما تزال الإمكانات التي يمتلكها التنظيم تثير الأسئلة، إذ يلاحظ تنفيذه عمليات اغتيال في ريفيّ دير الزور والرقّة، ونصبه الكمائن وتوجيهه الضربات لقوات النظام في البادية السوريّة، البادية التي بدأت تتحوّل إلى حديقة التنظيم الخلفيّة التي يشنّ منها وفيها هجماته عبر خلاياه “ذئابه المنفردة”، أما مشروع مواصلة القتال فيحمله المؤمنون بمشروع داعش لا سيما أولئك المجرمون الصغار الذين اكتشفوا سحر القتل والأذى وإخضاع المجتمعات بالعنف والقسوة دون أن يخضعوا لمساءلة أو عقاب، ومع كل عمليّة اغتيال يتبنّاها التنظيم تلحظ أنه يريد القول بأنّ ظلاله باقية.