تناقضات الثورة الصناعية بين نمو الإنتاج الصناعي وتكثيف استغلال الإنسان وتدمير البيئة

لم تكن الثورة الصناعية (1760- 1850)م حدثاً مفاجئاً كما يوحي اسمها، ولم تكن إنجازاً رأسمالياً بحتاً في مسار التطور البشري. بل كانت نتيجة تراكمات اقتصادية واجتماعية هائلة في تاريخ البشرية، إذ أن أي عملية إنتاج باستخدام الأدوات هي عملية صناعية.

بل إن هذه الثورة التي حدثت في ظل امتداد قوة المنظومة الرأسمالية المتصاعدة في القارة الأوروبية والمنتشرة عالمياً في الفترة الواقعة ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، بفضل الاكتشافات الجغرافية وبناء الأساطيل التي أبحرت عبر المحيطات نحو آسيا وأفريقيا والأميركيتين، وأدت إلى بناء المستعمرات الأوروبية في الأراضي المكتشفة حديثاً، إضافةً إلى تخفيض تكاليف نقل المواد المستخدمة في التجارة بنسب مرتفعة جداً بعد تحريرها طرق التجارة من العرب والأفارقة.

ونقل العبيد الأفارقة إلى المستعمرات الجديدة في أمريكا على مدى قرنين من الزمن، كان عبارة عن ظاهرة جديدة أدت إلى تكثيف دور رأس المال في الإنتاج والاستغلال، وتحقيق أرباح منقطعة النظير مقارنة مع التجارة والزراعة. وقد ساعدت في توسع النشاط الاستعماري للرأسمالية الأوروبية خلال الفترة المذكورة أعلاه.

لقد حققت الرأسمالية الأوروبية أرباحاً هائلة من تلك التطورات التي أدت إلى تخفيض تكاليف النقل ما بين أوروبا والأراضي المكتشفة حديثاً. إذ أن تخفيض تلك التكاليف لم تؤدِّ إلى تخفيض أسعار الموارد المستوردة من قبل الأوروبيين، بل تم استخدام تلك الفروقات الكبيرة كأرباح تدخل في خزينة الدولة التي حققت تراكماً رأسمالياً كبيراً، وذلك إلى جانب نمو ملكية الرأسمالين وبلوغها أرقاماً تمنعها من العودة نحو الخلف. بل على العكس من ذلك، فتلك القوة الناشئة والمتعاظمة خلال هذه الفترة التي لا يمكن وصفها بالطويلة، رأت الطرق مفتوحةٌ أمامها على جميع الخيارات التي تؤدي إلى زيادة سيطرتها بعيداً عن جميع القيم الأخلاقية والدينية وأي رادعٍ آخر يمكن أن يحد من توسع هيمنتها على الساحة الأوروبية كمرحلةٍ أولى من حياتها الصناعوية، لتعيد انتشارها عالمياً على أسس جديدة وأكثر خطورة من تلك التي سادت في المرحلة الميركانتيلية.

بعد أن تمكنت الرأسمالية الأوروبية من توطيد قدمها على الأرض عبر التراكم الأولي لرأس المال الذي تحقق نتيجة السياسات الخارجية المذكورة آنفاً، بدأت بتطبيق سياسات داخلية مكملة لترسيخ دورها النهبوي، فما كان منها إلا أن تفرغ المزارع من أصحابها الذين ينتجون لأنفسهم بالدرجة الأولى ويستخدمون الفائض في السوق، وتستعيض عنهم بالأغنام لتحقيق التطور الصناعي وتحويل هؤلاء المزارعين إلى مشردين باحثين عن لقمة العيش على أطراف المدن الكبيرة والقبول بالعمل لصالح الرأسماليين بأجور زهيدة. وكانت تطبق تلك السياسات بإشراف مباشر من البرلمان في بريطانيا. وأدت هذه السياسة إلى حدوث حالات اجتماعية كارثية في اسكوتلندا وإيرلندا، حيث “شهدت إيرلندا في أربعينيات القرن الثامن عشر مجاعة فظيعة نتجت عن مطالبة الفلاحين الجائعين بدفع الإيجار إلى ملاك الأرض (معظمهم بريطانيون)، وأدت إلى موت مليون شخص من الجوع ومليوناً آخرين هجروا أراضيهم بحثاً عن عمل في بريطانيا والولايات المتحدة”.

لقد ساعدت هذه العملية بالتدخل المباشر لاقتلاع المزارعين من أراضيهم إلى تشكل فائض سكاني في المدن، أدى إلى تقليل حاجة الرأسماليين للبحث عن العمال الذين ترسخ لديهم فكرة استحالة مقدرتهم على العيش دون الاستنجاد بالرأسماليين المسببين لمجاعتهم، وهنا ظهرت حالةٌ فريدةٌ، وهي الاضطرار إلى العمل لدى المستغلين والذي تطور عبر الزمن إلى عشق ذلك المستغل الذي تطور لديه سبل الاستغلال في القرنين العشرين والحادي والعشرين نتيجة تطور آلة الإنتاج وسيطرة الشركات والمؤسسات الإنتاجية الكبيرة وما نجم عنها من ظهور المدن الكبيرة على سطح الكرة الأرضية وانتشارها كالفطور. فبقدر ما توجد في المدن الكبيرة الأحياء الفقيرة والهامشية التي تنعدم فيها معظم شروط الحياة اللائقة بالكرامة الإنسانية فإن أرباح الشركات الكبيرة تتعاظم بفضل توسع حجم الأسواق باستمرار، حيث أن أكثر من نصف سكان المعمورة يسكنون في المدن.

وإذا كان ذلك يعني شيئاً فإنه يعني أن نصف سكان الكرة الأرضية تحولوا إلى مستهلكين للمواد الغذائية بعد أن كانوا منتجين لها. ولا شك أن هذا الأمر قد أدى إلى تزايد جشع الرأسمالية وشجعتها على توسيع آلة الإنتاج باستمرار لتحقيق أهدافهم التي تركزت فقط على المزيد من الأرباح باستغلال الأسواق واحتكارها رويداً رويداً.

وتحولت البيئة إلى أهم ضحايا هذا النظام بعد الإنسان، وبيد الإنسان. إذ أنه يتم استغلال البيئة بأكثر الصور وحشية دون الرضوخ لأدنى القواعد الأخلاقية، وبلغ حجم الأضرار البيئية الناجمة عن توسع نشاط الشركات الرأسمالية درجات لا يمكن إهمالها، وبات من الضرورة إيجاد الحلول الجذرية لعشرات القضايا البيئية، مثل ذوبان الجليد في القطبين الشمالي والجنوبي، والذي يهدد بفقدان 8% تقريباً من سكان الأرض لمنازلهم بسبب الغرق المرتقب نتيجة ذلك، وثقب الأوزون الذي يهدد بتحويل الأرض لبيت زجاجي من خلال ظاهرة الاحتباس الحراري وقطع ملايين الهكتارات من الغابات وتلويث الأنهار وفقدان الكثير من الحيوانات البرية لحياتها بسبب التغيرات المناخية وانقراض بعض الأصناف والاقتراب من نفاذ الوقود الأحفوري وغيرها من القضايا البيئية التي لا شك أنها من النتائج المباشرة لجشع المنظومة الرأسمالية الهادفة إلى الربح بعيداً عن جميع الروادع الأخلاقية والقانونية.

إذا لم يكن كل ما سبق بمثابة ناقوس خطر للبشرية جمعاء للوقوف أمام التمدد الرأسمالي لابتلاع الكرة الأرضية جرياً وراء الأرباح، فإن ذلك يعني أنه مثلما تمكنت الرأسمالية من بسط نفوذها على الصعيد الاقتصادي والسياسي والعسكري، فإنها استطاعت وبنفس القدر من بسط سيطرتها الفكرية على البشرية وحولتها إلى كتل بشرية عائقة لمستغليها دون أن تدرك حقيقة ما يجري من مآسٍ على سطح كوكبنا.

وأياً كانت الظروف، ومهما كانت سطوة المنظومة الرأسمالية متطورة، فإن الواقع الذي تعيشه البشرية تحت رحمة الصناعوية لابد أن يتم بلورتها ووضعها تحت مجهر المفكرين المدافعين عن البيئة والساعين إلى إنهاء الاستغلال الحاصل في ظل هذا العصر الصناعوي، وذلك لتقديم أطروحات الإنقاذ الشاملة للبشرية والبيئة من حالتها الكارثية.

ولم ترتق الحلول المقدمة لمعالجة القضايا الناجمة عن الصناعوية الأوروبية المنتشرة عالمياً إلى مستوى الحلول الجذرية النابعة من التحليلات العميقة للعلاقة ما بين التطورات الاجتماعية والتطورات الاقتصادية، والتأثير المتبادل فيما بينها، ولا شك ان التحليلات الماركسية كانت جزءاً من تلك الحالة، ووقعت في خطأ الانجرار إلى التحليل على مستوى السطح والوقوع في نفس دائرة تحليلات المدارس الرأسمالية.

أمام هذه الحالة الفكرية غير المكتملة. لم تجد الأمراض الناجمة عن التطور الصناعي في ظل الرأسمالية عواقب فكرية تكفي للجم انتشارها وتوسعها لدرجةٍ أصبحت النظريات الاجتماعية والاقتصادية ترى في الصناعة القاضمة للحياة معياراً للتنمية، ومتلازمة ضرورية لحدوث التقدم على مختلف الأصعدة.

وإذا كانت هناك أسئلةٌ قد تم طرحها بشأن الصناعات الكبيرة وذات المعدلات الاجتماعية المرتفعة لتخريب البيئة وتدميرها، مثل الصناعات النووية وصناعة الكائنات المعدلة وراثياً، فإنها ظلت أسئلة خجولة وغير كافية لمعالجة القضايا الكثيرة التي تمس حقيقة جوهر الإنتاج الصناعي المستهدف إلى الربح.