من أدبيات الخبز

تختزن ذاكرة شعوب المنطقة قصصاً فريدة ومؤلمة عن قيمة الخبز دوناً عن كل السلع والمواد الأخرى.

تشترك هذه الشعوب المتجاورة في معايشة مجاعات كانت غالباً لا تقتصر على حيّز مكاني ضيق، بل تشمل كافة المناطق التي تربط فيما بينها طرق القوافل التجارية. هكذا حين يدون مؤرخ أو رحالة عن مجاعة في حلب فإن لها امتدادات على طرق القوافل من الموصل إلى دياربكر، وبدلالة مجاعات وثّقتها شهادات في مدن مركزية كحلب ودمشق وبغداد، يمكن البحث عن تداعيات مشابهة في مناطق مهمّشة، قد تكون خارج التوثيق.

 في واحدة من الحالات، يذكر الشاعر الكردي جكرخوين مشاهداته عن الأوضاع الاجتماعية المحيطة بقريته في سنوات الحرب العالمية الأولى، حين كان شاباً بلغ مطلع العشرين، وقدّر أن نصف السكان الكرد قد ماتوا في أعوام المجاعة والغلاء خلال الحرب.

تتابعت حالات المجاعة المترافقة مع الأوبئة، والعكس صحيح، طيلة الحقبة الطويلة (حقبة الهلع المستمر من انقطاع الخبز) السابقة على النصف الأول من القرن العشرين. أما النصف الثاني من القرن العشرين، ضمن تقويم الخبز، يمثل بحق نهاية عصر مجاعات الخبز.

نتج عن تراث الجوع المتكرر على شعوب المنطقة ما يمكن تسميته بـ”أدب الخبز” رغم أنه لا يوجد عمل مخصص لمثل هذا الموضوع، خاصةً وأن الوفرة النسبية، والعظيمة، مقارنة مع القرون السابقة، جعلت المجاعات مجرد ذكريات وقصص من الماضي في كردستان وحلب والشام والأناضول وإيران.

هذه الآلام تداخلت مع حياة الأجيال اللاحقة، أجيال وفرة الخبز، على شكل قصص كان رواتها الأوائل هم الناجون من هذه المحن.

بعضها صيغت على شكل مواعظ تحض على احترام الخبز لأعلى درجة، مثلاً هناك مواعظ تحذيرية موجهة خاصة للأطفال بعدم الشكوى من الخبز السيء، لأن الرغيف يشعر بالكآبة ويصرخ حتى يهتز العرش من صوته حزناً حين يسمع أنه محترق وصلب وطعمه لا يُحتَمل.

تنقل شهادات شفوية عن معاصرين لمجاعة الحرب العالمية الأولى في ريف حلب، أن في سنة من سنواتها، احتبس المطر وكان موسم القمح هزيلاً، ما بقي منه احتكره الجيش ولم يبقَ للسكان طحين للخبز، على أنه في العام التالي، كان المطر غزيراً وأنعش المحاصيل في فترة الربيع حيث يبدأ القمح بالنمو سريعاً، كما نمت أعشاب وحشائش كثيرة في تلك السنة، كما في سنوات الخير كل مرة.

ولأن الخبز كان ما يزال نادراً، والموسم الجديد يحتاج إلى بضعة شهور حتى يجهز، فقد أقبل الناس على أكل الأعشاب مثل “الخبيزة” بكميات كبيرة بديلاً عن الخبز والحبوب، وتفننوا في الاستمتاع بهذه الأكلة العشبية، منها المسلوق ومنها النيئ، إلا أنه مع مضي أسابيع قليلة على موجة الخبّيزة، بدأت أجساد الكثيرين تنتفخ بشكل مخيف ثم مات في سنتها الكثير من الناس لهذا السبب، وسمي شعبياً ربيع الانتفاخ.

هناك قصة تتردد في تلك الفترة نفسها عن ضابط عثماني يعطي جندياً ليرة ذهبية في سنة من سنوات المجاعة، ويطلب منه البحث عن خبز يبتاعه للأكل. بعد ساعات يعود الجندي خالي الوفاض وقد بحث في أحياء حلب وحواريها دون أن يحصل على رغيف خبز، فيقول له الضابط: “ارمِ الليرة التي معك في المزبلة.. فلا حاجة لنا إلى مال لا يفيد في تأمين رغيف خبز”. 

كذلك، شهدت الأعوام 1879 – 1880 غلاءً فاحشاً أكبر من طاقة الناس. حسبما ذكرت جريدة التايمز الإنكليزية فإن كارثة حلّت في دياربكر والموصل، عندما فقدوا وسائل العيش، وارتفعت كثيراً أسعار الخبز بسبب الجفاف، بينما كان لدى حاكم هكاري (غسان باشا) مخزون باعه بسعر بخس للسماسرة والمهربية، بعد أن تلقى رشوة كبيرة.

وانتشرت الأوبئة بسبب الجوع والفقر. وأكد الطبيب (لاتواني) في أرضروم أنه مات في هكاري أكثر من عشرة آلاف إنسان بسبب الجوع الذي عانى منه الأكراد خاصة” (أحمد محمد أحمد – أكراد الدولة العثمانية)، وتتحدث مجلة ميشاك الأرمنية عن هذه الحقبة، وتذكر كيف أن “الأكراد والأرمن تحولوا بغالبيتهم إلى هياكل عظمية بسبب الجوع والمرض، يطوفون في الشوارع بلا هدف، يشكون من الألم ويطلبون المساعدة. ومات في منطقة (باش قلعة) حوالي 10 آلاف شخص على الأقل وبين 2 إلى 3 آلاف في أطراف بيازيد وآلاشكيرت ومثلهم في مناطق ميديات وبوطان، عدا عن المئات الذين ماتوا على الطرقات.

لم يتمكن الناس من تحمل هذه الأوضاع والجوع، وعن هذه الحوادث أيضاً.

جاء في مذكرات قدري جميل باشا: هجم الجائعون الأكراد بالسلاح على مستودعات الحبوب وقتلوا الموظفين الأغنياء وقاموا بقتل الجنود الأتراك”.

وعن تلك الفترة أيضاً، وصلت العديد من التقارير لوزارة الخارجية الروسية من موظفيها العاملين في الدولة العثمانية. وكتب نائب القنصل الروسي في تقريره وفق ما نقله كتاب “أكراد الدولة العثمانية” أن “السكان اضطروا إلى أكل لحم الحمير والأعشاب المختلفة، نتيجة لقة الخبز، وقد قابله ممثل البطريركية الآشورية في ميديات، عندما كان في دياربكر للحصول على إذن باسم عشرة آلاف كردي مسلم، لقبولهم تحت الحماية الروسية أو السماح لهم بالهجرة إلى روسيا”.

وقد أكد ذلك القنصل البريطاني في تبريز، آبوت، وذكر أنه “مات في بعض القرى الكردية معظم سكانها ولم يتبقّ في البعض الآخر سوى النساء والأطفال”. وحسب مشاك دفع الجوع بالسكان إلى الهجوم جماعات على مستودعات القمح ونهبها دون الالتفات إلى القوانين والحراسة. وانتقلت هذه الهجمات العفوية تدريجياً إلى نضال مسلح، وتحول إلى رافد من روافد انتفاضة 1880″.

ينقل عباس العزاوي عن حوادث 1880 في “تاريخ العراق بين احتلالين – الجزء الثامن”: “أخبرت الجوائب، وجرائد سورية، عن الغلاء والقحط والجوع الذي أصاب بغداد والموصل، وأنه لا يوصف إلا بأبشع الأوصاف، وأنه قاسٍ مؤلم جداً. يشاهد الموتى في الطرقات، وبيعت البنات والأولاد إلى آخر ما هنالك. وهذا هو الذي يسمى بمجاعة البرسمية أي (جوعان) في اللغة الكردية ، فمالوا إلى بغداد وصاروا ينطقون (برسيمة) .. وتوالت أخبار الجوع في بغداد بسبب المهاجرة من الشمال”.

على أن السكان قد ابتكروا أيضاً طرقاً لتخفيف مجاعة الخبز، وإن كان رمزياً لكن ذو قيمة تكافلية كبيرة. فقد عرفت مناطق من بلاد الكرد، منها السليمانية، عادة اختصوا فيها ولم تمتد إلى غيرهم. فقد كان الخبز فيها لا يُباع بالمال، ومحرّم المساومة على الخبز في سعره، لذا كان أصحاب الدكاكين القليلة يضعون أرغفة من الخبز مخصصة للمحتاجين مجاناً. وهي لا شك حصيلة تربية تصوّفية. وقد تحدث عن هذه الظاهرة باستغراب الميجر سون في السليمانية عام 1909. وتحتفظ الروايات الشفهية الكردية بقصص عن مجانية الخبز وحرمة بيعه والتربح منه.

وبسبب طبيعة المائدة في الشرق عموماً، فقد كان الخبز لوحده وجبة الفقراء، خصوصاً في فترات المجاعة المتكررة، وكذلك وقت الحروب حين كانت الدولة تستولي بالقوة على المنتوجات الزراعية الأساسية لإطعام الجيوش الضخمة.

وكان الخبز عنصراً رئيسياً في منهج التقشف النقشبندي في تكية بارزان. ومعروفٌ أنه خلال تقشف الأولياء والشيوخ فإنهم يقتصرون على قطعة خبز والقليل من التمر أو اللبن خلال يومهم. شكل هذا المقدار والنوع من الطعام غالبية وجبات الشيخ سعيد النورسي خلال حياته في المنفى الداخلي الطويل. أما الشيخ عبدالسلام بارزاني، الذي أعدمته السلطة الاتحادية العثمانية عام 1914 في الموصل، فإنه لم يذق خبز القمح في تقشفه، واعتبرها “قوت الأغنياء”.