العروبة والربيع العربي

هل ستصمد العروبة التي بشّر بها زكي الأرسوزي وساطع الحصري وميشيل عفلق ومحمد عزة دروزة وغيرهم أمام التحديات السياسية والاجتماعية التي تعصف بالعالم العربي منذ عقد من الزمان؟

 تواجه العروبة، كأيديولوجية سردية شمولية، منذ نشوئها أواخر القرن التاسع عشر ثالث أكبر تحدّ تاريخي لها، ولعله سيكون التحدّي الأخير الذي يؤذن بزوالها من على مسرح التاريخ كما عهدناها، دون أن يعني ذلك أن المشروع القومي العربي سيزول بالضرورة بدوره.

العروبة مثلها مثل النزعة (الطورانية) قامت على مقدمات الإقصاء والنفي للثقافات التاريخية وإنكارها، وكانت رومانسية إلى حدّ كبير وغارقة في اللاتاريخانية. فضلاً عن أنها عمدت إلى ترقيع نفسها بقيم دينية وعناصر سياسية وأساطير لا تتناسب قط مع وعي حداثي بالانتماء، كانت قوامها الانتماء العرقي والولاء الديني والطائفي، وهنا تكمن نقطة ضعفها الرئيسة.

في حين أن الطورانية في صيغتها الأتاتوركية عمدت إلى حسم خيارها بانحيازها إلى علمانية راديكالية لم تعتد كثيراً بالتاريخ الديني والميراث الروحي للشعوب التركية وأساطيرها. وأحلّت( لوغوس) مركزياً جديداً لوعي الانتماء هو مفهوم (المواطنة) التركية، الذي كان بدوره مفهوماً عرقياً خالصاً خالياً من أيّة تعددية ثقافية. الأمر الذي منحها زخماً تاريخياً لمدة قرن من الزمان استمرت به الدولة التركية ولا تزال، رغم ما تواجهه الآن من انقسامات مجتمعية وثقافية متأصلة في نشأة الدولة بالذات، كالمسألة الكردية والأرمنية…إلخ

لقد مثّلت حرب فلسطين، منتصف القرن العشرين، أول تحدّ تاريخي لوعي الانتماء العروبي. وفشلت العروبة في إيجاد وحدة في الموقف السياسي سواء على مستوى الموقف الرسمي أم الشعبي. وكانت العروبة هي الشاهد الأبرز على هزيمة العرب أمام مجتمع ناشئ وحديث.

والتحدّي الثاني الذي واجهته العروبة كان في العقد الأخير من القرن العشرين، وبدأ باحتلال الكويت واستمر حتى سقوط بغداد سنة 2003. برهنت العروبة خلال هذه الحقبة عجزها التامّ في أن تكون هويّة مشتركة وموحِدة للنظام العربي.

لم تصلح العروبة حتى هذه البرهة التاريخية في أن تكون أساساً جامعاً لمواطنة عربية حديثة، فضلاً عن قصورها في أن تكون إطاراً لنظام ديمقراطي حداثي. بخلاف ذلك شكّلت على الدوام مطية لنظم الاستبداد وغطاءً لمغامرين جدد وانقلابيين اغتصبوا باسمها السلطة وإرادة الشعوب، كما حدث في العراق وسوريا واليمن. ناهيكم بأنها كانت على الدوام خميرة للانقسامات السياسية العميقة في المجتمعات العربية. وهذا ما برهنت عليه الوقائع التاريخية الأخيرة لانتفاضات شعوب العالم العربي.

وشكلت انتفاضات ما يسمى بـ(الربيع العربي) التحدّي التاريخي الثالث للعروبة. وعوضاً من أن تصبح الأخيرة وعياً تنويرياً مشتركاً للمنتفضين، ونطاقاً سياسياً وأيديولوجياً لتوحيد مطالبهم. فقد تحللت إلى عناصرها الأولية لتغذي أشكالاً متطرفة من وعي الانتماء وبرهنت على هشاشته لدى المواطن في الشارع العربي، وهنا يكمن المأزق السياسي والأيديولوجي العميق لهذه الانتفاضات في سوريا وليبيا وتونس واليمن.

واختزل النظامان العروبيان في سوريا والعراق الهُوية الوطنية إلى انتماء واحد، ومهد للتعصب المذهبي والعرقي، وأسس الاستبدادين السياسي والديني، وعمل على إقصاء الآخر المختلف، وإنكار إنسانيته وجدارته واستحقاقه. وحال هذان النظامان وحكمهما دون خلق وعي مشترك بالانتماء لدى السوريين جميعاً أو العراقيين، و هو الذي دفع بالأوضاع إلى نزاع داخلي مروّع، طويل الأمد، في البلدين، يمكن وصفه بالتدمير الذاتي.

ومن المؤكد أنّ العنف ينمو لدى الأفراد ويتفاقم عندما يترسخ لديهم إحساسٌ فريد بهُويّة دينيّة أو مذهبية أو إثنيّة، يعزز من تمايزها وتفوقها. إنّ رفض الآخر الناجم عن هذا الشعور أو القناعة هو، غالباً، أحد المحفزات الرئيسة للنزاعات الأهلية والمواجهات الطائفيّة. وعندما نتأمل الصراعات القائمة حولنا وبين ظهرانينا، يتبيّن لنا أن من أهم المصادر التي تغذّي هذه الصراعات؛ الزعم بأن الناس يمكن تصنيفهم على أساس الدين أو المذهب أو العنصر. وتجربة السوريين المريرة في الأعوام الأخيرة من القتل والتدمير والتهجير لا يمكن تصنيفها إلا في خانة نتائج هذه الذهنية العنصرية والمذهبية.

وكرّس تسلّط النظام العروبي في سوريا عملية الارتياب المتبادل بين المكوّنات الأصليّة وكرّس حالة من عدم الثقة والانقسام بينها خلال أكثر من نصف قرن. من هنا راح يتلاعب على الأهواء والأمزجة الطائفية والعرقية الراسبة في وعيها، ليُظهِر نفسهُ كمصدرٍ وحيدٍ للتماسك الوطنيّ والقومي.

وعلى نحو أشدّ تطرفاً وخبثاً دأبَ البعث السوريّ الحاكم على تغذية الارتياب والحذر المتبادل بين الهويّتين العربيّة والكرديّة وكرسّ ذلك لدى الأغلبية العربية السائدة عبر تقديم صورة مشوهة عن الكرد وأهدافهم السياسية، بوصفهم عنصراً مشبوهاً ومرضياً في جسد العروبة، ينبغي التخلّص منه بشتى السبل، وهذه الصورة ورثتها المعارضة الإخوانية- المؤتلفة وظلّت أشدّ إخلاصاً من النظام على التمسك بها وتبرير كراهيتها المقيتة للكرد والمكونات السورية الأخرى.

لقد دأب النظام على رسم خط فاصل بين الهويّتين كنسقين متوازيين لا يلتقيان ينبغي لأحدهما أن يسود على حساب الآخر. وأسّس مجموعةً مركزيِّة من التقاليد السياسية القهرية، الحاجبة والعازلة على الكرد، وجعلَ الهويّة العربيّة ضاغطةً قاهرةً متسلِّطة، والهويّة الكرديّة راضخةً مقهورةً مغلوبة، تحت حكم الاستخبارات والعسكر.

العروبة، كما عهدناها في صيغها الأيديولوجية، كما بشّر بها آباؤها، ستكون أكبر الخاسرين على أرض سوريا، مثلما خسرت على أرض العراق، سواء شئنا أم أبينا، الأيديولوجية العروبية، نظرية وممارسة، كمنظومة سردية ستنزاح أمام امتداد منظومة أيديولوجية أخرى (إسلام معولم) ستحلّ محلّها إلى حين كما يبدو، وستنبثق انتماءات اجتماعية وولاءات سياسية قوامها أيديولوجيات محلية قبل حداثية.

بكل حال سوريا كتنظيم دولتي ستحتاج إلى إعادة هيكلة على أساس الاعتراف بهذا الواقع الجديد وتسمدّ منه مبرر وجودها. وما يبدو ملحاً من الناحية التاريخية هو التأسيس ضمن أفق ديمقراطي تعددي وعلماني، وإلا سيكون التقسيم هو المآل الحتمي للبلد، بلا مكابرة أو معاندة أيديولوجية فارغة، دعونا نبدأ من هنا.