قامشلي ـ سلام حسن ـ نورث برس
إذا كنت تبحث عن السكينة والهدوء، وإذا كنت تجد نفسك، ممن افتقدوا الكثير، من ذاكرتهم المشبعة بالألوان والأحلام، وهزمتك زحمة المدينة، وسيطرت التقنيات والوسائل الحديثة من أجهزة الاتصالات ووسائل النقل من سيارات وغيرها، على تفاصيل حياتك اليومية، وصرت مكبلاً بقيود الحداثة ونمط التحضر المفعم بالقسوة والوحدة، في العمل وفي العلاقات الاجتماعية عموماً وشعرت أنك “تتشيء” رويدا، رويدا.
خذ قرارك كما أخذته أنا في الخروج برحلة قصيرة على مدار 83 دقيقة مع المخرج عباس جيارستمي في فيلمه “أين منزل صديقي”، وبطله الصغير (أحمد بور) يأخذانك لعوالم مدهشة في عملية “خطف للخلف” ويزيلان الغبار عن ذاكرة أصابها الصدأ.
طبيعة قصة الفيلم
يعود المخرج في قصة الفيلم إلى ثيمته الأثيرة عبر منظور طفل في الثامنة من عمره للواجب اتجاه زميله في الدراسة وشريكه في المقعد والذي يظهر في المشهد الأول والأخير من الفيلم.
في المشهد الأول يتعرض زميله لتوبيخ شديد من المعلم بسبب كتابته الوظيفة (الواجب المنزلي) على الكتاب وليس الدفتر.
ويتلقى الإنذار الأخير من المعلم الصارم، وهنا يلجأ المخرج لطرح المشكلة منذ اللحظة الأولى للفيلم ويجعلنا نتتبع كاميراته في رصدها للأحداث ولتشابكها وتعقيدها.
ونجد في المشهد الثاني أن (محمد رضا نعمت زاده) زميل بطل الفيلم قد نسي دفتره مع أحمد وعاد إلى منزله الذي يقع بعيداً في قرية نائية تدعى “بوشتيه”.
وهنا نداء الواجب الذي يتجسد في ضرورة إيصال دفتر زميله الذي نسيه لديه كي يكتب واجبه المدرسي الذي هدده المعلم بمعاقبته إذا لم ينجزه.
ونداء الواجب الذي يسمعه أحمد ويلبيه، فيقوم بمحاولة إيصال الدفتر لزميله نعمت زاده رغم اعتراض أمه، وهنا يصطدم مفهوم الطفل في رحلة بحثه عن منزل صديقه، برياء وتعقيدات عالم الكبار في وسط المفارقات التي يمر بها من أجل الوصول إلى صديقه في القرية المجاورة.
ويستثمر جيارستمي جماليات المنظر الطبيعي في الريف الإيراني ليقدم حكايته التي يجسدها عبر ولعه الخاص بالتفاصيل الصغيرة وبلمسات إنسانية ساحرة.
التصوير والسيناريو والموسيقى
استخدم جيارستمي الكاميرا الثابتة في مقاربة للفيلم الواقعين كما استخدم اللقطات القريبة في مجمل الفيلم إلا أنه استخدم مشاهد عامة وبانورامية بغية توظيف المشاهد الخارجية للطبيعة والأشجار والبيئة الريفية وجعلها جزءاً من السيناريو بصرياً.
وعلى صعيد السيناريو أدخل عدة محاور وقصص هامشية متتالية تماشياً مع رحلة بحث البطل، أظهر فيها التناقض الحاد بين المفاهيم الأخلاقية والتربوية بين الأجيال المتعاقبة وأبقانا منتظرين الحل إلى المشهد الأخير.
ولم يلجأ جيارستمي إلى الموسيقى التصويرية واكتفى بالأصوات العامة وبعض من الموسيقى الإيرانية الكلاسيكية، ولم يستعن بممثلين محترفين وإنما استعان بأطفال ونساء ورجال القريتين من الريف الإيراني والذي تعرض لاحقاً لزلزال عنيف ومصير هؤلاء الذين ظهروا في الفيلم بقي مجهولاً لدينا.
والمخرج جيارستمي، المولود في طهران عام 1940، درس الرسم والتصميم في جامعة طهران في ستينيات القرن الماضي، وعمل في عالم الإعلان رساماً للملصقات وصور خلال أربعة أعوام في الستينيات نحو 150 إعلاناً تلفزيونياً، كما عمل مقدمات الأفلام، وزين برسومه كتب الأطفال.
وترك جيارستمي أكثر من أربعين فيلماً توزعت بين الأفلام الروائية والوثائقية والأفلام الدرامية القصيرة.
ومن تلك الأفلام: “الخبز والزقاق” عام 1970، فيلمي “التجربة” 1973 عن قصة حب بريئة لطفل يعمل في محل مصور فوتوغرافي مع صبية من طبقة أخرى، و”مسافر” 1974، الذي يقدم مغامرة طفل في بلدة صغيرة يستميت من أجل حضور مباراة بكرة القدم في المدينة.
وأشارإلى انتباه العالم إلى فنه في عقد الثمانينيات مع انطلاق أول أفلام ثلاثيته التي عرفت باسم “ثلاثية كوكر”، وهو اسم قرية إيرانية كانت موقع أفلامه الثلاثة فيها، بدءاً من تحفته السينمائية “أين منزل صديقي” عام 1987.
ويعود جيارستمي إلى هذه القرية ثانية في فيلم “الحياة ولا شيء سواها” عام 1992، وفي الفيلم الثالث “تحت أشجار الزيتون”.
ويتفقد في الفيلم الثاني مصير الطفلين الذين مثّلا في فيلمه وحال القرية بعد الزلزال الذي ضرب المنطقة مطلع التسعينيات “لقطة قريبة” (كلوز اب)1990، الذي يصور محتالاً يقدم نفسه لعائلة على أنه المخرج الإيراني “محسن مخملباف”، الذي يريد اختيار بطلة لفيلمه منهم.
وصنف هذا الفيلم ضمن أفضل 50 فيلماً في تاريخ السينما في استفتاء نقدي أجرته مجلة “سايت أن ساوند” عام 2012.
وتوج الفيلم بجائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي الدولي، عن فيلمه “طعم الكرز”، الذي يقدم فيه قصة رجل يريد الانتحار وتقضي خطته أن يأخذ جرعة كبيرة من الحبوب المنومة لينام في حفرة على أن يجد شخصاً يساعده ويقوم بدفنه بعد موته.
ويتجول الرجل بسيارته في ضواحي المدينة بحثاً عن هذا الشخص ويخوض حوارات مع أناس مختلفين عن الموت والحياة، وهم يحاولون إقناعه بنبذ فكرة الانتحار وحب الحياة بأدلة مثل تذوق طعم الكرز.
صورة خارج إيران
فيلم “نسخة طبق الأصل” صورة في إيطاليا مع الممثلة الفرنسية جوليت بينوش (منحت على دورها فيه جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان 2010) والممثل ومغني الأوبرا البريطاني وليم شيميل في أول أدواره السينمائية.
وفيلم “مثل عاشق” وهو فيلم من إنتاج فرنسي ياباني مشترك صوره في اليابان عام 2011، تجري أحداثه في طوكيو عن فتاة موزعة بين كونها طالبة علم اجتماع وعملها غانية في نفس الوقت، فضلاً عن توزعها بين صديقها الشاب، وأستاذ جامعي متقاعد أرمل تخوض معه علاقة عابرة على مدى يومين.
أقوال حول الفيلم
يقول السينمائي الكردي الإيراني “بهمان قوبادى” إن هذا الفيلم ماثلٌ في ذهنه دائماً بسبب منظور المخرج العميق في صناعة الأفلام وهيكله الغريب والمتميز “سينما جيا رستمي مطرزة بالبراءة، مباشرة وبسيطة ولا ترفع أي شعار.”
أما المخرج الفرنسي-السويسري الكبير جان لوك غودار في وصفه بالقول: “السينما تبدأ بدي دبليو غريفيث وتنتهي عند عباس جيا رستمي.”
الجوائز البارزة بالسينما
توج جيارستمي بالعديد من الجوائز البارزة في عالم السينما، كتلك الجوائز التي حملت أسماء بناة السينما المعاصرة التي منحت له خلال حياته: روسيليني، تروفو، بازوليني، كيراساوا وفليني، فضلاً عن السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي التي نالها عام 1997 عن فيلمه “طعم الكرز”.
وفاز الفيلم بالنمر البرونزي في مهرجان لوكارنو السينمائي عام 1989. كما فاز بلوحة ذهبية في مهرجان الفجر السينمائي
والفيلم من إخراج وسيناريو وتأليف، عباس جيا رستمي، وشارك فيه مجموعة من الممثلين: “بابك أحمد بور في دور أحمد، أحمد بور في دور محمد رضا نعمت زاده، خدا بارش دفاعي دور مدرس إيران اوتاري دور الأم، آيات أنصاري دور الأب، صديقة توحيدي بيمان موافي، وآخرون.