المهاجر المتواصل.. أدوات التعايش وميثاق للتعددية

عبر العصور تنقل البشر بين القارات وتحرك الناس من مكانهم بحثاً عن الأمن والغذاء وكذلك هرباً من الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية. أما في عصرنا الحديث عصر التكنولوجيا الملازم للعولمة فلقد أخذ هذا النزوح البشري شكلاً آخر، حيث أن تكثيف العلاقات والتبادلات الاقتصادية بين الدول في العقود الأخيرة أدى إلى تواجد مفهوم جديد للعلاقات البشرية بين المجتمعات المختلفة.

دول جديدة نشأت وتطورت وأصبحت لاحقاً صناعية والتحقت بالدول الرائدة لتدخل حلقة التبادل الاقتصادي العالمي وتستثمر كغيرها بعيداً عن محيطها الجغرافي وتستقبل بدورها استثمارات أجنبية من دول بعيدة عنها.

ولاحظنا كيف اضطرت الشركات المتعددة الجنسيات تدريجياً انتهاج طرق جديدة لتطوير أسلوبها الإداري للموارد البشرية، وقد فعلت هذا لمواكبة تطور العلاقات الإنسانية التي فرضها واقع تواجدها في مناخ متعدد الثقافات, أي أن حاجة تواجد تلك الشركات الكبرى في أمكنة بعيدة عن ثقافة المنشأ وبإدارة مشتركة الهويات فرضت ابتكار مناهج عمل جديدة.

وحتى أن الشركات الصغيرة في أكثر الدول بعداً عن مراكز التطور التكنولوجي أصبحت مضطرة اليوم لأن تفكر بالانفتاح على العالم والتغير من منهجها بالإدارة لضمان استمراريتها اقتصادياً.

مفهوم العمل الذي بقى طويلاً مختلفًا من مكان لآخر حسب الثقافات أًصبح يتوجه نحو مفهوم موحد نتيجة التفاعلات الاقتصادية التي أجبرت الناس من جنسيات مختلفة على التعايش والعمل المشترك لأهداف مشتركة.

من جهة أخرى، اختلف مفهوم الهجرة والتنقل تماماً عما كان عليه، فالمهاجر إلى الشمال أصبح له وجه جديد، بينما كانت الهجرة لأوروبا في الماضي مرادفة للعزلة القاتلة والانقطاع التام عن الأهل، ناهيك عن المعاناة من التمييز العنصري. فقد تغير واقع المهاجر تماماً اليوم لكونه أصبح متواصل.

وباتت الأبحاث الجديدة في علوم الاجتماع تستعمل هذا المصطلح “المهاجر المتواصل” لتعبر عن أن المهاجرين اليوم يبقون متواصلين مع ثقافاتهم الأصلية عبر الإنترنت ووسائل التواصل الصوتية المرئية التي توفرها الشبكات في كل مكان من هذا العالم. كذلك يتفق الجميع على أن الأبارتيد الثقافي لم يعد ممكناً، ولا يمكن عزل أحد عن ثقافته الأصلية أو حجب المعلومات عنه ومنعه من التفاعل مع الثقافات الأخرى وتطوير ذاته.

 هذا الواقع البشري الجديد يفرض على المجتمعات تحديات جديدة ويفرض ضرورة لابتكار مفاهيم جديدة وأساليب معرفية جديدة للتعاطي مع الأزمات والكوارث التي تواجهها البشرية.

وفي بداية تسعينيات القرن الماضي لاح في الأفق العلمي الأوروبي مفهوم جديد للعلاقات البشرية وهوما سمي ب مفهوم “بين الثقافات” أو عبر الثقافات،  وهو مفهوم يؤيد التعددية بمضمونه وينبذ العنصرية ويعيد النظر بالسياسات الأوروبية القديمة للاندماج ولهيمنة الثقافة الموحدة. وصاح دعاة هذا التيار الجديد رافضين حتى مصطلح “اندماج” في أوروبا مفضلين عليه مصطلح “تعايش”, احتراما لاختلاف الأخر.

واستطاع هذا التيار الإنساني أن ينتصر في أوروبا مطلع الألفية الجديدة, فارضاً معايير جديدة وأسس اعتمدها الاتحاد الأوروبي وتم تبنيها تحت اسم “ميثاق التعددية” في المؤسسات والشركات الخاصة.

ويبدو لنا اليوم أن هناك حاجة جديدة للتذكير بمعايير هذا الميثاق, فهذه المعايير المعتمدة في أوروبا تشكل نقلة نوعية في المجتمعات الغربية, وتزداد ضرورة إعادة طرحها اليوم والتذكير بها, حيث نلاحظ من جهة بعضاً من الانغلاق والتراجع في المجتمعات الأوروبية عن تلك المبادئ, ومن جهة أخرى وبالتوازي لا بد أن نقر أن القادمين الجدد يأتون من ثقافات ومجتمعات لا تعتمد هذه القيم, بل هي أبعد ما تكون عنها بالنسبة لعنصريين في الغرب نفسه.

 فقسم كبير من القادمين الجدد للغرب يرفضون هذه المعايير الإنسانية بحجج دينية أو اجتماعية أحياناً. وهذا على الرغم من أنها تشكل الحاجز الواقي للمهاجر الجديد من العنصرية والتمييز.

هذه المعايير الإنسانية شكلت ميثاق شرف اسمه ميثاق التعددية, اعتمد منذ عام 2004 في فرنسا وفي المرحلة ذاتها اعتُمد في الاتحاد الأوروبي، وتم نشره على نطاق عام ووقعته تدريجياً الشركات والمؤسسات، وهو يشير لضرورة انتهاج سياسات إدارية للموارد البشرية تأخذ بعين الاعتبار الاعتراف بإمكانات الفرد وإبراز الكفاءات الفردية وبهذا تساهم الشركات بعملية التماسك الاجتماعي وبنشر قيم العدالة الاجتماعية.

 وهذه المساهمة الاجتماعية المدنية ترد لها فهي بهذا الفعل تطور أداءها، وفعلاٌ تطور الأمر وبتنا نتحدث اليوم عن المسؤولية المدنية للشركات.

أما عن معايير التمييز المحظورة فهي الأصل والجنس والعادات والتوجه الجنسي والانتماء العرقي والأفكار السياسية والنشاط النقابي أو ما شابه القناعات الدينية والمظهر الخارجي والاسم، بالإضافة إلى الحالة الصحية والإعاقة ووضع المرأة الحامل والعمرو الحالة الاجتماعية والخصائص الجينية والهوية الجنسية.

 حتماً، كل معيار مشار إليه هنا يستحق شرحاً وتوصيفاً, لكن المعنى واضح, فلا يجوز التمييز بين الناس على أساس أي من المعايير المشار لها.

 هذا التيار الفكري الذي انطلق من أكاديميات العلوم الإنسانية ووجد مكانه وأخذ شرعيته في أكبر مدارس الاقتصاد والإدارة في العالم, هومن صالح عالم المال مع المجتمع حين طور مفهوم الرأسمالية من مفهوم ربحي بحت لمفهوم اجتماعي جديد يعطي للشركات الخاصة دوراً إصلاحياً مساهماً في إصلاح المجتمع بشراكة مع الدولة. وهكذا بعد ما كانت الدولة في صراع مع القطاع الخاص أصبحوا شركاء.

ورغم أن معايير التمييز قد لا تعبر عن قناعات كل الأوروبيين بإجماع، لكنهم جميعاً ملزمون قانونياً باحترامها كقانون ملزم وعدم تجاوزها, ورغم تصاعد بعض الأصوات المتراجعة عن هذه القيم بحجة الإرهاب وعدم احترام المجتمع الإسلامي المعني بعنصرية هذه القيم, إلا أنه لا يمكن اليوم في عصر العولمة تراجع أوروبا عن هذه القيم, لأنها تعد بإجماع أدوات تعايش, تنطلق من واجب احترام الآخر كفرد.

وحتماً لا بد من الإشارة هنا لكون الأديان عموماً لم تقبل هذه المعايير ببساطة ومن هنا مشكلة المهاجرين الجدد لأوروبا, القادمين من دول لا تميز بين الدين والدولة.

ولاحظنا كيف أن بإمكان الأديان تطوير خطابها والتشريع بما يتماشى مع احترام حرية الفرد والآخر، أي مع قيم التعددية. فها هي الكنيسة تمضي تدريجياً منذ سنوات نحو إيجاد مفاهيم عصرية تكرس حرية الفرد بشكل أكبر وتواكب بالتالي هذه المعايير . وأيضا لدى علماء الدين الإسلامي يتم تدريجياً بروز خطابات تحديثية.

وكثيراً ما يجري الحديث في الغرب عن إسلام فرنسي أو أوروبي, إسلام يراعي ضرورة التعايش واحترام الآخر كي لا يكرر المأساة التي يعيشها الفرد في مجتمعات دول الأصل ذات الأغلبية الإسلامية والتي بحجة الدين أو السلطة لم تعترف بأبسط حقوق الفرد وانتهكتها, وهذه الانتهاكات الاجتماعية أو السياسية كانت السبب بهجرة ونزوح هذا المواطن الفرد. ولكن لربما لا داعي لتواجد إسلام فرنسي بل هناك حاجة لإسلام عصري لكل مكان, إسلام لمهاجر متواصل يتعايش مع العصر والتطور، بمعنى آخر إسلام يعي احتياجات الإنسان في المجتمع , ويعي كل المساحات المسلوبة من حقوقها.