الباستيل والكابيتول

“كونوا مستعدين للقتال. توقفوا عن تسمية ذلك مسيرة أو تجمعاً حاشداً أو احتجاجاً. توجهوا لهناك وأنتم على استعداد للحرب. إما أن نعيد رئيسنا أو نموت. لن يحقق شيء آخر هذا الهدف. الكونغرس في حاجة لسماع صوت تحطم زجاج وركل أبواب وإراقة دماء من جنودهم العبيد أتباع مبادرة حياة السود مهمة والحثالة.”

كانت هذه العبارات جزءاً من الحملة التعبوية لأنصار الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، قبل ساعات من اقتحام المئات منهم مقر الكونغرس. منذ اللحظات الأولى لانتشار مشاهد الاقتحام، كانت نتيجة هذا الفعل الاحتجاجي النادر محسومة مسبقاً بأنها لن تغير هزيمة ترامب إلى نصر، ولن تضع الرئيس المنتخب جو بايدن في موقف محرج من ناحية شرعية فوزه. مع ذلك، ما حدث، رغم أنه احتجاج بلا معنى من حيث الهدف المباشر للاحتجاج الهزلي في الكثير من جوانبه، فقد استند إلى قناعة هؤلاء المقتحمين بعدم شرعية نتائج الانتخابات، وقسم كبير منهم جاء من ولايات أمريكية بعيد استجابة لـ”نداء الدفاع عن الانتخابات ضد السرقة.”

السيطرة على حركة الاحتجاج بعد ساعة من الاقتحام فقط، لا يعني نهاية الدافع المحرك، وهو هنا حسب هؤلاء يرقى ليكون المانيفستو الثوري تحت عنوان “تصحيح مسار الديمقراطية”، باعتبار أن الديمقراطيين ونخب واشنطن وول ستريت يسيطرون على تقنية فرز النتائج، بحسب ما يردده أنصار ترامب.

من جهة، الدافع سياسي مدفوع بكم هائل من الأخبار المضللة، ومن جهة أخرى هناك نقمة من هؤلاء على الجزء المجهول من الثورة التقنية في العالم، ويتصورون أن هذا الجزء المجهول مكرس للتلاعب بالخيارات السياسية بطريقة تجعل كل شيء يبدو في سياق طبيعي، بما في ذلك هزيمة ترامب في الانتخابات.

أطلقت أوصاف كثيرة على ما يمكن تسميته بـ”الكتلة الشعبية الصلبة” المناهضة لسياسات المؤسسة السياسية والمالية في واشنطن ونيويورك، وتطلق عليها حركات اليسار، مثل أنتيفا، وصْفَ الفاشيّة، من زاوية غير دقيقة في التعريف بالفاشية نفسها، إنما للترويج أن أنصار ترامب هم أعداء الديمقراطية وحقوق الإنسان.

الواقع، أن المظهر الخارجي لمجموعة من الغاضبين وهم يقتحمون مبنى الكابيتول في واشنطن يسهّل حل معضلة التوصيف والتصنيف، وإدراج هؤلاء في خانة أعداء المنظومة المؤسساتية الليبرالية، وليس الديمقراطية.

ويبقى أن الحكم من المظهر الخارجي قد ينتج صورة غير كاملة عن دوافع هذه المجموعة التي أبدت روحاً نضالية مستعدة للتضحية في سبيل شيء ما، وهذا الشيء في نظرهم يستند إلى منع عملية استغباء الكتلة الأشد تطرفاً في مناهضة للحزب الديمقراطي. هذه القراءة بحاجة لأن يتم تكرارها كثيراً لفتح الباب أمام قراءة أقل فقاعية للحدث الرمزي الضخم والهزلي في آن واحد. ففعل الاقتحام، في نظر المقتحمين، ليس ازدراءً للديمقراطية ولا تداول السلطة بقدر ما يهدف إلى تصحيح النتيجة. بمعنى، ليست الآلية هي الهدف، ليس هدْم الديمقراطية، وإن كانت النتيجة والمضمون في الاقتحام يصب في هذا الاتجاه في النهاية، ويتضح هذا حتى من ردود الدول والمنظومات السياسية المعادية للديمقراطية الليبرالية في أنحاء العالم.

وربما داعبت مخيلة بعض متقدمي صفوف هذا الاقتحام “التاريخي” سيناريو سقوط سجن الباستيل عشية الثورة الفرنسية عام 1789، كرمز لسيادة النظام. كان سقوط الباستيل نهاية الحكم الملكي الإقطاعي وبداية عصر، شابه تعثر، من الديمقراطية الدستورية في العالم، مع منظومة قيم ليبرالية مقبلة على التوسع لتكون على ما هي عليه اليوم.

ويمكن قراءة حدث اقتحام مبنى الكابيتول كحركة تمرد على “باستيل أمريكا” في نظر الكتلة الفاقدة للثقة بنخب واشنطن، وهي النخب ذاتها المؤيدة للعولمة، والمعتدلة فيما يخص ملف الهجرة. بمعنى ما، تمثل نخبة واشنطن ونيويورك، في نظر ترامب وأنصاره، “الشيوعية الجديدة” التي تحكم أميركا. وفي بعض الرؤى الأكثر تطرفاً تمثل هذه النخبة مؤامرة من قبل شبكة عالمية سرية لتقويض الروح الأميركية، والهجوم المعاكس على مجتمع البيض، وهو الهجوم المستمر منذ 1865، نهاية الحرب الأهلية.

ولا يمكن القفز على هذه التصورات خلال محاولة رسم صورة عامة للمشهد. إلباس قراءة تسطيحية وتجريمية لتصورات هذا الفريق الناقم على هيمنة نخبة متخيلة على المؤسسات الديمقراطية لن يساعد سوى في التغطية على الرؤى الترهيبية للفريق الآخر، اليساري “الأنتيفي” تجاه ما يسمونه “الفاشية الترامبية”. إنه مشهد هزلي، مفصلي، لأجواء الانقضاض الجماهيري على الأرستقراطية في خضم الثورة الفرنسية. فمن يمثل الرجعية في مشهد اقتحام الكونغرس؟

في الصدى الخارجي، شعرت الكتلة الديمقراطية الليبرالية في العالم أنها كانت ممثلة في شخوص أعضاء الكونغرس الفارين من أمام المقتحمين.

بالنسبة لجوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فإن ما جرى “يجب أن يكون جرس إنذار لكل أنصار الديمقراطية”، وتحدث عن الصورة الأكثر سوداوية، وهو “إمكانية تلاشي الديمقراطية ومؤسساتها وبشكل لا رجعة فيه.”

ومقارنة ببقية الساسة الأوروبيين، بدا وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، الأكثر وضوحاً في الدعوة لمعركة مشتركة ضد ما أسماه “أعداء الديمقراطية الليبرالية”، والأكثر من ذلك اقترح فكرة غير مسبوقة، تتضمن العمل بين أوروبا وأميركا بشأن “خطة مارشال للديمقراطية”، مستخدماً اسم البرنامج الأميركي لإعادة بناء أوروبا، وتحديداً ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية.

فكرة ماس لا تختلف كثيراً، من حيث آليتها السياسية، عن “التحالف المقدس” بين روسيا والنمسا وبروسيا، غداة هزيمة نابليون عام 1815. التحالف المقدس كان تحالف النخب الحاكمة ضد شعوبها. على مستوى معركة التنوير كان تحالفاً ضد الديمقراطية والثورة والعلمانية، وكل ما تمثله الثورة الفرنسية وما ترسمه للمستقبل. رغم سقوط هذا التحالف، لكنه بقي الأساس الأيديولوجي الذي أسقط “ربيع أوروبا” عام 1848.

ما يمكن أن يمثله “مارشال الديمقراطية” هو أيضاً ائتلاف سياسي بأساس فكري، ضد جزء من شعوب هذه الدول التي يمثلها هذا الائتلاف المارشالي. ومن ناحية القيم “مارشال الديمقراطية” هو نقيض “التحالف المقدس”، أما من حيث آلية التنفيذ والغاية، فالاثنان ينطلقان من المبدأ ذاته: منع ظهور ثورة ضد النظام القائم. في حالة أميركا اليوم، يعني أنه ضد الخيار السياسي لجزء كبير، لا يمكن تقدير نسبته، من الـ75 مليوناً  الذين صوتوا لترامب.