السرّ رقم 13

حين تم التوقيع على معاهدة سيفر والبنود الخاصة بكردستان وأرمنستان عام 1920، كانت الاتجاهات السائدة في عموم كردستان تشير إلى أن نحو نصف السكان على الأقل ضد معاهدة سيفر، رغم أنها تضمنت بنوداً تفضي في النهاية إلى قيام دولة كردية بعد المرور بمرحلة الاستفتاء والحكم الذاتي.

هذا يعيدنا إلى معضلة التاريخ الكردي الشائع اليوم، حيث صاغته عدة تيارات، بعضها أفراد وقعوا تحت تأثيرات أيديولوجية، مثل الأكاديميين الكرد في الاتحاد السوفييتي الذين كانوا غالباً يبحثون في كل الأحداث عن أي رمز ديني للاستنتاج إلى الطابع الرجعي للقيادة، أو تعود هذه النظرة إلى رؤى حزبية مؤسساتية، مثل جمعية خويبون في ثلاثينيات القرن الماضي، وأحياناً لعبت مذكرات شهود تلك المرحلة دوراً في التسطيح، مثل الشاعر جكرخوين الذي فسّر عدداً من المواقف بما يشير إلى أنه لم يصل إلى عمق الحدث.

التاريخ الكردي مطلع القرن العشرين تمّت كتابته في أجواء امتدت بين العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، ورافق هذا التدوين اعتقادٌ بأن دولة كردية سيتم إعلانها قريباً في جزء من أجزاء كردستان. لذا كان تاريخاً كتب على عجل لأغراض التعبئة.

وحتى اليوم، هناك عشرات الأسئلة لا جواب لها لفهم تلك المرحلة، أو على الأقل طرح احتمال وجود رواية أخرى لما حدث.

على سبيل المثال، أظهرت ثورة 1925 انقسام الحركة النقشبندية، إذ لم يستطع الشيخ سعيد حشد الكثير من القبائل خارج إطار التقسيم اللغوي المحلي، فكان أنصاره من القبائل الناطقة بلهجة زازا، والقسم الشمالي من القبائل الناطقة بالكرمانجية (قبيلة جبران) فيما لم تسانده قبائل الكرمانج الجنوبية بين ماردين ودياربكر، كما انخرطت بعض قبائل الزازا العلوية إلى جانب الجيش التركي في القتال ضد ما فسرته عديد من المراجع الأكاديمية بمناهضة قبائل هورماك العلوية لـ”الرجعية السنّية”، وفي الحقيقة لم يكن هذا التفسير المذهبي يمت للحقيقة بصلة. فقد كان القادة الكرد، بجميع الخلفيات الدينية والمذهبية على اتصال في تلك الفترة، وهناك صورة تجمع الشيخ سعيد بالو النقشبندي مع المرجع العلوي الكردي الأكبر، سيد رضا، والوثائق التركية المنشورة تظهر اتصالات بين الزعماء الكرد في ديرسم وبوطان وبدليس في تلك الحقبة الثورية.

ورغم مرور كل هذه السنوات، وتوفر بيئة أكاديمية بحثية، لم تظهر محاولات إعادة تصحيح مثل هذه السرديات الدخيلة في مجريات أحداث كبرى.

فانضمام قبيلتَي هورماك ولولان إلى الجبهة المعادية للثورة عام 1925، يعود إلى فشل الشيخ سعيد بيران، قائد الثورة، في حل قضية الثأر بينها وبين قبيلة جبران، التي كانت تقود فعلياً الثورة عبر قادة الصف الأول، وفي المقدمة خالد بك جبري، الذي قتلته السلطة التركية في بدليس في أولى أيام الحراك المسلح.

ولم يعمل خالد بك، الذي تسببت عائلته بمقتل قادة من هورماك العلوية قبل سنوات، بأي مبادرة صلح جدية، رغم معرفة كل من خالد بك وسعيد أفندي أن موقع قبيلة هورماك وحليفتها الأخرى، لولان، كان محورياً في حال التخطيط لنجاح الثورة. وإذا كانت هناك جهود في هذا الاتجاه، فإنه لم يتم رصدها وتوثيقها للتوافق مع ما حدث في تلك الفترة.

وتظهر الاتصالات بين القادة الكرد في الفترة بين عامي 1908 و1937 أنه لم تكن هناك مسألة طائفية بين الكرد السنة والعلويين، وأن هذه النظرية في تفسير عدد من الأحداث الكبرى في تلك الفترة تمت صياغتها لاحقاً، وتعمقت في السنوات الأخيرة نتيجة ظهور تيار قومي كردي انعزالي، وهي غير الانعزالية القومية عن الأقوام الأخرى المجاورة، وإنما انعزالية داخلية من بين مظاهرها إيجاد تفسيرات رثة، هشة، لتفسير أحداث كبرى، مثل هزيمة 1925، والإلقاء بمسؤولية الهزيمة إلى حد كبير، على القبائل العلوية في ديرسم وألازيغ.

الواقع الذي حدث، والمدعم بالوثائق والشهادات، يشير إلى أن نسبة عدم مشاركة الكرد السنة في تلك الثورة أضعاف مضاعفة لدى مقارنتها بالإحجام الكردي العلوي، الثأري، والمحدود، عن الانضمام إلى ذلك الحراك.

وكان التأييد للثورة من خارج بيئة الزازا السنية النقشبندية، متفرقاً ومتناثراً. فعلياً، كانت هذه الثورة هي الحركة المسلحة الأكبر والوحيدة التي قادها الفرع السني من الزازا، أي بيئة المريدين النقشبنديين لمشيخة الشيخ سعيد أفندي (بيران).

فضلاً عن ذلك، لم يكن هناك إجماع على قيام هذه الثورة. ما تم تصويره لاحقاً كإجماع قومي حول أهداف الثورة هي من ثمرات التشكيل الأدبي لسرديات القومية الكردية في ثلاثينيات القرن العشرين.

على سبيل المثال، لم تجر دراسات تفكك للمرحلة الأخطر من التاريخ الكردي، بين 1914 و1925. خلال هذا العقد المضطرب، الدموي، التهجيري، الإجرامي، المظلومي، حدثت فوضى في التدوين، واحتيال في ترتيب الأحداث ودوافعها.

ورغم أن العديد من الكتابات تطرقت باستفاضة إلى حقائق غير شائعة في تلك المرحلة، إلا أن هناك أسباباً غير واضحة في المجمل أنشأت حاجزاً يمنع انتقال المعرفة التاريخية من صفحات الأبحاث الجادة التفكيكية، المهنية، إلى الجهة الأخرى حيث القراء المواطنون والسياسيون وطليعة الحزبيين الشباب. بقيت السرديات المتداولة في الوسط السياسي العملي، والصدى الشعبي للتاريخ، منفصلة عن حقيقة ما جرى إلى حد كبير. فباتت هناك سردية كردية لا علاقة لها بما حدث.

على سبيل المثال، أيضاً، تجاهلت مباحث التاريخ الكردي، خصوصاً الذي كتبه البحاثة الغربيون والروس، مسألة الميثاق الملّي الذي وقعته حكومة أنقرة مع ممثلي الكرد، بالضد من حكومة إسطنبول السلطانية، في العام 1920. وإنّ من أنعش الحديث عن الميثاق الملّي هو زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله اوجلان، الذي تحدث مئات المرات منذ عام 2000، خلال مقابلاته مع محاميه، وفي مرافعاته، عن ماهية الميثاق الملي، وكيف أن الصراع في تركيا حالياً يتمحور حول وقوع الميثاق تحت وطأة التفسير الأحادي للجمهورية، فحوّل الكرد من شركاء إلى رعايا مسحوقين.

وبات تمسّك أوجلان بالميثاق الملّي تحت عنوان الميثاق نفسه “الأخوة التركية الكردية”، لدى قسم غير قليل من الكرد، محل سخرية، معتقدين أن كلمة “أخوة الشعوب” تعني تخلياً عن روح القومية الكردية، ويروج لذلك الآلة الدعائية لحزب كردي، وكذلك من يقرؤون التاريخ على شكل مكعبات منفصلة، وهناك مسؤولية للطرف المتبني لهذا الاتجاه أيضاً في عدم استيعابه لبعض جوانب هذا الاتجاه.

ولا يستطيع هؤلاء إيجاد الصلة بين مكعّب “أخوة الشعب” وبين مقررات مؤتمر لوزان 1923. فالميثاق الملّي هو نقيض الأحادية القومية الإبادوية التي أقرها مؤتمر لوزان.

بمعنى آخر، نهج “أخوة الشعوب” هو روح الميثاق الملّي التعددي، وورطة “الجمهورية”، وليس دبكة مشتركة ومناهضة للهوية القومية، لكن هذه الفلسفة السياسية أيضاً تمثل هوية تتحقق عبر الشراكة الإدارية والثقافية في الدولة.

لماذا يقترب الكرد، في المجمل، بشكل كاريكاتوري من التاريخ؟

لأن فعل القراءة، وروحها الذي ينقل العقل من زمنه إلى زمن الحدث التاريخي، هو فعل غنائي لدى الكرد، وليس تحليلياً. ولا قدرة للعقل الغنائي على تركيب قطع التاريخ المتناثر.

القراءة المتفشية للتاريخ بين الكرد هي القراءة التي يتم فيها سحب خيط وسط كومة الخيوط المتشابكة، وقص حكاية ذات بعد واحد غير تشابكي، لأنها في الأساس قراءة غنائية ملحمية. وهناك نموذج للقراءة الغنائية العاجزة عن التركيب، رغم وضوحه:

في 1898 نشرت صحيفة “ثروت فنون” العثمانية، صورة في عددها رقم 360. تعود الصورة لـ13 طالباً متطوعاً كردياً في القسم العسكري من مدرسة العشائر، وهم الذين تخرجوا ضباطاً وليس كإداريين.

في العام 1925، كانت هناك صلة تجمع هؤلاء الضباط الـ13. وبعد الاطلاع على بعض التواصل المتناثر في صفحات كتب ومذكرات بين رفاق الدراسة هؤلاء، يمكن ضم هذه الصورة إلى مجموعة الألغاز الكبيرة في هذا التاريخ. إذْ، كيف يُعقل أن نفهم ما جرى في 1925 بدون معرفة الصلة التي كانت تجمع بين هؤلاء الشخصيات الـ13 عشية الثورة؟