حاتم علي.. رؤية بصرية وبناء حكائي خاص

قامشلي -بسام سفر نورث برس

تتشابه البدايات الفنية كثيراً للعديد من المشاهير في عالم الفن في شتى أنواعه، إذ نادراً ما نجد فناناً ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، ففي سورية لا يشذ معظم النفانين عن هذه القاعدة فحياة المبدعين السوريين الذين دخلوا عالم الفن انحدروا من الأحياء الشعبية في المدن الكبرى، وهذا ما حدث مع مبدعنا الراحل حاتم علي ابن قرية فيق في الجولان السوري.

في العام 1967 كان عمر حاتم علي لا يتجاوز خمس سنوات عندما نزح مع عائلته محمولاً بين كتفي خاله وهو ما جسده في أحد مشاهد عمله التغريبة الفلسطينية، ليقيم في مخيم اليرموك بريف دمشق.

وما زالت حياة حاتم علي في الحجر الأسود ومخيم اليرموك، ماثلة للعديد من رفاق الدرب الطويل، إذ لعبت الحركة السياسية الفلسطينية دوراً كبيراً في رعاية موهبته المتنوعة وأغناها في كتابة القصة والمسرحية من خلال تجمع أبناء الجولان السوري الفني.

لكن العلاقة الفارقة الكبيرة في الحياة الفنية للراحل، هي دراسته التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، التي وضعت هذه الموهبة على السكة الصحيحة للوصول إلى فن راق.

تأسيس بصري حياتي

في بدايات عمل “علي” كمخرج، عمل على مجموعة من السهرات والثلاثيات وغيرها قبل الوصول إلى السلاسل التلفزيونية الأندلسية والأعمال الدرامية الرمضانية.

وكان من تلك السهرات والثلاثيات، “سهرة آخر الليل” في العام1996، حيث نجد مجموعة من المشاهد الحياتية التي يرصدها كمخرج بعيداً عن الصور التلفزيونية السائدة في ذلك الوقت، وهي سهرة بين عمال النظافة في مكب القمامة خارج مدينة دمشق.

إن مجرد التصوير بهذا المكان الذي نادراً ما قُدِّم في الدراما السورية، هو تفكير درامي مخالف لما اعتادت عليه الدراما السورية والعربية عبر الصورة التقليدية.

ويتعزز هذا المخالف في سيرة الزير سالم عبر الشراكة الفنية التي ولدت بين الشاعر والكاتب الدرامي ممدوح عدوان، وحاتم علي، حيث قدما بنية درامية مشاكسة لكل ما هو شائع عن الزير سالم في المنتج الحكائي التاريخي للسيرة الملحمية الشعبية.

بالإضافة إلى منجز بصري يسعى لكتابة حكاية بصرية تتساوق مع المنجز الحكائي لسيرة الزير سالم، وهذا ما دفع الراحل عدوان إلى الدفاع عن هذا المنجز البصري الحكائي والنهاية التي قدمها مع شريكه لشخصية الزير التي أعادها من الأسطورة التاريخية إلى واقع حياة هذه الشخصية بالمعنى الحقيقي، حيث قبل في نهاية العمل مبادلة زواج ابنته مقابل بقاءه حراً يتجول بين الأعراب.

عملية التأسيس البصري في الزير سالم هو ما شجع الراحل حاتم، على المضي قدماً لما سنراه لاحقاً في غيره من الأعمال الدرامية التي قدمها.

فعملية التخزين البصري من الحياة الدمشقية خارج السور القديم للمدينة نجده في الاستعانة بالمفردات والعناصر الحياتية لإعادة تشكيلها ضمن نسق بصري درامي بعيداً عن التقليدية في تقديم الدراما السورية.

ويقول الناقد السينمائي محمد عبيدو عن إخراجه فيلم سيلسينا: “حاتم علي العاشق للسينما والقادم من تجربته المهمة في مجال الدراما، قام بأفلمة مميزة حملت بصمته الخاصة ورؤيته السينمائية المتجددة، ليقدم فيلماً فيه الكثير من المتعة والدراما والغناء والاستعراض والفن الجميل والرؤية السياسية الناقدة الحاملة لكثير من الإسقاطات على الواقع العربي الحالي. جعلنا ننسى العمل المسرحي الأصلي مع دقائق الفيلم الأولى.”

تعدد الحاجة الدرامية

إن أعمال حاتم علي الاجتماعية كثيرة مثل “الفصول الأربعة بجزأيه، أحلام كبيرة، ندى الأيام، الغفران، قلم حمرة،.. وغيرها.”

ومن خلال رؤية هذه الأعمال يجد المشاهد أن “علي”، لم يعمل على البهرجة البصرية التي يتشوق إليها الكثير من المخرجين السوريين والعرب، وإنما توظيف الصورة البصرية الحياتية لعائلات أعماله وفق الحاجة الدرامية لكل عائلة منها، بحيث تقارب الرؤية الحياتية التقليدية للمستوى المعاشي في كل عائلة خصيصاً في الفصول الأربعة وأحلام كبيرة.

فلا وجود للبذخ البصري، كما في الأعمال التاريخية “الزير سالم” مثلاً، إذ لا يمكن مقارنة عائلة (نجيب، بسام كوسا) بعائلة (الجوربار، سليم صبري) من زاوية الواقعية الحياتية في مسلسل الفصول الأربعة، وإدراج كل عائلة في المستوى المعاشي والحياتي التي تعيشها من خلال مستوى الدخل لكلا العائلتين.

والمستوى الاقتصادي لعائلة الجوربار أباح للمخرج تقديم بذخ بصري حياتي كبير كما ينبغي أن تكون.

وفي” أحلام كبيرة” يحافظ على الرؤية البصرية للعائلة الأساسية في سياق “اقتصادي، اجتماعي”، لكن ذلك لم يمنعه من تقديم مشهدية بصرية خاصة، إذ نجد الأب” بسام كوسا” عندما يريد عقاب ابنه “رامي حنا” يستخدم” الفلقة” ويعاقبه لوحده ونرى مشهد العقاب في وجه والدته (سمر سامي، وإخوته)، وهذا ما يستدعي تدخلها لكي تفكه من “الفلقة”.

وهذه المشهدية تعزز الرؤية البصرية والبصمة الخاصة بحاتم علي بعيداً عن البهرجة والبذخ البصري في الصورة الدرامية التي يحتاجها العمل.

وبالإضافة إلى هذا التوظيف درامياً، نجد توظيفاً بصرياً آخر في سياق نقل نبض صورة الحياة في دمشق من خلال التقطيع المونتاجي بين الصورة في شوارع المدينة، وبين السياق الدرامي لمجرى أحداث المسلسل.

ونرى في” قلم حمرة” سياقاً بصرياً يعزز دور كل عائلة من العائلات الموجودة في العمل ونجد منحى بصرياً آخر في الحانة أو الكافيتريا التي تتحمل المشهدية فيها تعزيز الحضور البصري الخاص في العمل.

ويضاف إلى ذلك ذاتية العديد من الشخصيات التي يفرد لها حضوراً بصرياً خاصاً مثل حضور “سلافة معمار”، وآلية سرد حكاياها في كل من لحظات العمل الدرامي، خصيصاً بعض المشاهد في السجن.

ومن جديد فإن دراسة الرؤية البصرية التي قدمها المخرج علي في أعماله الدرامية الاجتماعية تحتاج إلى دراسات في علم قراءة الصورة في سياق المنحى الاجتماعي لتركيب العائلة ومستوياتها المعيشية ضمن المنجز البصري الاجتماعي السوري الخاص.

كتابة التاريخ بصرياً

إن المشاهد الذي لم يقرأ التاريخ من أمهات كتب المؤرخين، فإنه سوف يعتمد الصورة التي قدمها حاتم علي ووليد سيف في ثلاثية الأندلس هي المرجعية في فهم العديد من الحقب التاريخية.

لكن بصيغة بصرية يتوافق الجميع على أنها جميلة عبر سرد درامي حكائي، وفي العديد من الأعمال التاريخية مثل صلاح الدين، والملك فاروق، وعمر بن الخطاب قدم منجزاً بصرياً لا يتعلق بالدراما التاريخية فقط.

وإنما صورة بصرية مع سرد تاريخي درامي يقوم على كتابة التاريخ بصرياً بحيث تصبح واقع العمل الدرامي المأخوذة وفق خصوصية الدرامية السردية وكأنها هي الوثيقة التاريخية، وهذا في الحقيقة غير دقيق تاريخياً، لذلك على الدارسين والنقاد الدراميين عدم اعتماد الدراما كوثيقة تاريخية.

وهي في الحقيقة لا تقدم ذاتها على أنها وقائع تاريخية كما يحاكمها البعض. فما يقدم في البناء الدرامي الحكائي لا يعتمد الوثيقة التاريخية التي اتفق عليها المؤرخين، وإنما يقدم وفق الحاجة والضرورة البنائية للعمل السردي الدرامي.

في حين هناك نمط وثائقي يعرف بالأعمال الوثائقية موجود كجزء من عملية كتابة التاريخ بصرياً بعيداً عن الدراما، وهنا يمكن اعتماد هذا المنجز الوثائقي في كتابة التاريخ بصرياً خارج نطاق الفعل الدرامي والبناء السردي الحكائي.

التغريبة حكاية الحكايا

من يستطيع مراجعة ما أثارته التغريبة الفلسطينية حين عرضها من جدل يصل إلى أن المنجز البصري الذي قدم في التغريبة بلغ بدون مبالغة ذروة بصرية درامية خاصة في الكثير من المشاهد واللقاءات والسرديات في متن العمل الدرامي.

ويمكن للكثيرين استذكار مشاهد عديدة من العمل، فمن المشاهد البصرية “الصراع الداخلي الشديد الذي ينتاب (أبو صالح، جمال سليمان) قائد الثورة عند وجوده في الصف على الدور أمام وكالة غوث اللاجئين (الأنروا)، وطرد الموظف له لأن كرت الإعاشة منتهية مدته.

ويحاول سليمان أن يمرر أخذ الإعاشة ذاك الشهر، لكن الموظف لا يقبل ذلك، ويطالبه باستخراج كرت إعاشة جديد، ما يدفع أبو صالح إلى الاشتباك مع الموظف وحشره إلى الحائط، وعندها يتدخل الناس الموجودين على الدور لفك الموظف من بين يدي أبو صالح.

وكذلك اللقطة التي عرفت فيما بعد أنها “مشهدية اللجوء” – عندما يكون حاتم، الطفل، محمولاً على رقبة خاله، وهم يقطعون الطريق إلى القرى الفلسطينية والسورية سيراً على الأقدام.”

ويضاف إلى ذلك ما قدمه مهندس الديكور ناصر الجليلي في تطور بنائية المخيم في كل ظرف زماني عاشه المخيم المحدث وغير المعروف في الحياة السورية.

اعتقد جازماً أنه لو أتيح للمراكز والجامعات الأكاديمية تقديم قراءة بصرية خاصة بالتغريبة الفلسطينية، لكان لنقاش محتوى الجهد والعمل على المبذول حتى يستطيع الناقد والمتابع الدرامي رؤية المشهدية الدرامية التي قدمها الراحل علي في المستوى البصري.

الإبحار في عالم حاتم علي البصري يحتاج العودة لمشاهدة المئات من الساعات الدرامية التي قدمها للمتلقي السوري، وهذا ما لا يستطيع أن يقوم به متلق خاص لكتابة مقال عن ذلك، وإنما يحتاج إلى فريق عمل قادر على وضع خطة مناسبة لرؤية ومشاهدة كافة أعماله، وإقامة أكثر من حلقة بحث ونقاش حول ذلك ليستطيع تحديد ملامح الرؤية البصرية التي قدمها الراحل خلال أعماله الدرامية كاملة.