على نحو مستعجل طوى السعوديون والقطريون خلافاتهما. الأعوام الثلاث الماضية كانت مثقلة بالفضائح والاتهامات والتراشق الإعلامي وردود الأفعال، تأخّر الحل رغم حجم الوساطات من داخل وخارج البيت الخليجي، لكن الخلاف الذي بدا عصياً على الحل انتهى، وهذا موضوع ملهم في منطقة تعجّ بالخلافات والانقسامات التي لا تنضب.
ثمّة رغبة أمريكية في تطويق إيران وإطباق الحصار عليها عبر شد دول الخليج بعضها إلى بعض، إذ تسبّب الحصار المفروض على الدوحة في جني طهران مكاسب مالية، بدأت مع عمولات الترانزيت في استخدام قطر أجواء وبر وبحر إيران لكسر الحصار وتأمين منفذ مكلف على العالم، وصولاً لاستيراد البضائع الإيرانية وإقامة شراكات تجارية معها، لذا دفعت هذه المسألة واشنطن للدخول على خط الأزمة وإنهاء الخلاف والحصار، إذ يجب وفق تصوّر واشنطن أن يكون الحصار مفروضاً على إيران دون سواها من دول منطقة الخليج في الوقت الحالي.
وفي زاوية ما من مشهد المصالحة تبرز الحاجة إلى وقف التحريض الإعلامي فيما خص التطبيع العربي – الإسرائيلي، وغاية الأمر أن تسري عملية التطبيع في هدوء وسلاسة جهد المستطاع، ولعل هذه المسألة أيضاً تحتاج إلى تطبيع عربي – عربي موازٍ يكون من شأنه عدم التشنيع بالمطبّعين مع إسرائيل وإثارة الرأي العام ضدهم.
ما يهم السوريين في مشهد مصالحة قمّة “العلا” هي السياسة الخليجية القادمة، إذ ركّز البيان الختامي في بنوده الخاصّة بسوريا، على مبادئ جنيف1 وقرار مجلس الأمن 2254، وصياغة دستور في أسرع وقت عبر اللجنة الدستورية، وتأمين انتقال ديمقراطي، وعودة اللاجئين ورفض إجراء أي تغييرات ديمغرافية في سوريا، غير أن الفقرة الأهم في مقررات المجلس الأعلى للقمة كانت مطالبة إيران بالخروج من سوريا وإدانة تواجدها وتدخّلاتها في الشأن السوري، والكلام هنا موجّه لإيران دون سواها، إذ لا عبارة أو إشارة تشير إلى وجود احتلال تركيّ أو اعتداءات وتدخلات تركية في الأزمة السورية. هذا التحديد والتخصيص يعني أنّ “الانفتاح” الإماراتي والعُماني على النظام السوريّ سيتراجع، أو سيصبح مقيّداً بالمقررات، ويعني أيضاً أن دول مجلس التعاون تدعم طبيعة التدخّل الأمريكي في سوريا والذي لن يعود مقتصراً على ملف محاربة الإرهاب، إنما ستصبح غايته الأساسية تعقّب ورفض التواجد الإيراني على الأراضي السورية.
في الغالب سيبقى منطق “تهاوشنا على الصيدة” قائماً، وهو التعبير الأشهر لوزير الخارجية القطري الأسبق حمد بن جاسم، في وصف التنافس السعودي القطري في سوريا منذ بداية الأزمة، ذلك أن الشراكة التركية القطرية باتت أوسع وأكثر رسوخاً من أن تفككها المصالح الخليجية، وهي شراكة تمتد على مناطق متفرقة، على سبيل المثال الدور القطري التركي في احتواء حكومة الوفاق الليبية ووجود البنك الوطني الليبي في تركيا جعل من البلدين شريكين في القرار المالي والنفطي لحكومة الوفاق الليبيبة، وبالتالي السيطرة على الجزء الحيوي من نفط شمال إفريقيا، وهو المنحى ذاته الذي سعت إليه الدوحة وأنقرة في سوريا عبر الانخراط المبكّر في مسار دعم جهود الإطاحة بالنظام والتي بنيت على المنافع الجيوسياسية المستقبلية بما تؤمنه سوريا من ممر لمد خطوط الطاقة نحو أوربا.
عززت الدوحة مكانتها في سوريا بالتحالف مع تركيا وبالاستناد إلى حضور الإخوان المسلمين في المشهد المعارض، وكان لصعود الإخوان في مصر وليبيا دوره الحاسم في الافتراق السعودي القطري، الأمر الذي دفع بالمملكة للمشاركة في تأسيس مقر عمليات مشترك مع الولايات المتحدة والأردن، ردّاً على التنسيق التركي القطري، إلى ذلك كان لتصدّر الدوحة المشهد المعارض واستضافتها مؤتمر المجلس الوطني السوري الدور الكبير في دفع الرياض للسعي إلى النفوذ داخل الجماعات المسلّحة المعارضة ودعمها بعد أن كانت السعودية والكويت قد قدمتا قرضين للحكومة السورية في تموز/ يوليو 2011 بلغت قيمتهما 209 مليون دولار، هذا التبدّل في الموقف السعودي والانتقال من موقع الطرف المحافظ إلى دور اللاعب المباشر يأتي معطوفاً على الدور القطري التركي، لكن ما شغل بال السعودية بشكل أكبر كانت مسألة النفوذ الإيراني في سوريا حيث أن الإطاحة بنظام الأسد يعني للرياض استعادة مكانتها في لبنان، ودورها لدى الفصائل الفلسطينية.
برز الخلاف في وقت آخر أيضاً حين سحبت السعودية والبحرين والإمارات سفراءها من قطر في آذار/مارس 2014 على خلفية دعم الأخيرة لتنظيم “أحرار الشام” فيما كانت الفكرة الأساسية ثني قطر عن سياساتها في سوريا، لكن واقع الحال أكّد صعوبة إقناعها، وأثبت عناد الدوحة.
من جهة أخرى علاقات قطر وإيران وثيقة جداً، فالبلدان يشتركان في إدارة أكبر حقل غاز، كما أن الدوحة ممتنة للدور الإيراني طيلة فترة الحصار، طبيعة العلاقة تصعّب قيام قطر بممارسة أي شكل من أشكال الضغوط على إيران، هذا واحد من الأسباب يعطّل البند الرابع في سلّة البنود المتفق عليها في قمة العلا والخاصة بالتواجد الإيراني في سوريا. الدور السعودي متمحور حول السياسات الأمريكية وهي سياسات لا توافق هوى تركيا وقطر بالضرورة، ما يعني أن الاصطفاف الخليجي في شكله الحالي سيبقى منقسماً كما كان في السابق، مع إمكانية إدارة الملف السياسي معاً، وبالاشتراك مع تركيا.
متانة العلاقات القطرية التركية الإيرانية والظروف الموضوعية التي تساهم في تقويتها تتظافر في سوريا بشكل أعمق من أي علاقة سعودية قطرية محتملة، ومهما بدا حجم الانسجام والتوافق في مقررات ومخرجات اللقاءات الخليجية فإن منطق “التهاوش” سيفرض نفسه مجدداً.
الغالب على الظن أنه لن يكون هناك سياسات خليجية جديدة في سوريا، أما ما يمكن أن يبلغه الاتفاق الخليجي فلن يتجاوز عتبة التضييق الجزئي على إيران خارج الملعب السوري، وهذا هو الترتيب الوحيد الممكن في بيت المتهاوشين.