مع دوامة العنف التي بدأت في عهد حكم البعث في سوريا وتصاعدت تدريجياً منذ الثمانينات، تكونت في الذاكرة الجماعية حالات مرضية من الحقد المتشعب وظهرت أجيال تعتبر العنف لغة تعامل طبيعية بين البشر للتعبير حتى عن الحب والعواطف، وقد تبدو المرأة هنا من أولى الضحايا .
وحتماً كان الإنسان البدائي أكثر همجية ودموية، فمع تطور المجتمعات تلاشى العنف بشكل ملحوظ بين أفراد المجتمع وفي المنازل والمدارس حيث مُنع ضرب الطلاب، ومنع الأهل من تعنيف أولادهم، والجيران من حل مشاكلهم فيما بينهم إلا بتدخل الشرطة, هكذا لينحصر العنف بيد السلطة المتواجدة، والتي تمنع في الدول المتحضرة أي فرد من أخذ حقه بنفسه أو عبر العنف، وذلك من خلال عبر القانون الذي يوفر بديلاً حكومياً منصفاً.
واكتشفت مهاجرات سوريات حديثاً لأوروبا كم كن مغبونات في سوريا، مقارنةً بما تتمتع به المرأة الأوروبية، وفهمنَ بسرعة كيفية استرجاع حقوقهن، وهكذا تمردت كثيرات على السلطة الأبوية والزوجية، وعرفن كيف يتوجهن للحكومة الأوروبية لكي تحميهن وتمنع أزواجهن من ممارسة العنف، ذلك العنف الذي كان يعد “حقاً طبيعياً” موفراً ببساطة للأزواج في سوريا.
ورغم سلب الحكومة السورية لأبسط حقوق المواطن السوري عموماً، إلا أن الدولة أصرت على أن تكرس بكافة السبل حقوق السلطة التعسفية للرجل، معتبرة ببساطة أنه يحق له أن يستعمل العنف دون عقاب مع من يخضعن لسلطته الأسرية.
خطاب تعديل قوانين الأحوال الشخصية يبدو، حتى اليوم، باللغة الخشبية ذاتها قولاً وممارسة لدى كل من النظام والمعارضة.
والخطاب السياسي الذي انتهجه نظام الأسد وكذلك المعارضة، يكرر أن قضية المرأة، بما فيها جرائم الشرف والعنف الزوجي، هي مجرد أزمة تخص المجتمع، ولا يد للسياسة أو الدولة فيها.
ويُجمع قادة النخبة من الطرفين على أن القضية ثانوية ولا خلاف عليها في العمق, بل حتى أن الأحزاب السياسية بما فيها جماعة الإخوان المسلمين وضعت في برامجها بنوداً تتحدث عن حقوق المرأة نظرياً وتؤكد على ضرورة إشراك المرأة في الحياة العامة.
وفي خطابات رسمية لوزراء النظام، نسمع منذ عقود تكرار هذه الشعارات التي تؤكد على أن حزب البعث طوّر المجتمع لأنه يساري تقدمي، ولكن تحسين وضع المرأة يواجه عوائق اجتماعية نتيجة العادات والتقاليد، وفق تلك الخطابات.
وتبنت المعارضة العبارة ذاتها، وباتت القضية بنظر الجميع مجرد مشكلة المجتمع لوحده، وكأن المجتمع منعزل عن قياداته، ناكرين بهذا أي عامل خارجي اقتصادي أو سياسي وأي مسؤولية سياسية، وكأن الدولة والسياسيين مستقيلون من أي دور جاد.
وهنا لا بد من أن يقرّ الجميع في سوريا بضرورة صياغة مفهوم جديد مشترك وعصري لدور السلطة.
وعندما ندرس مراحل تواجد الحركة النسوية في سوريا، نجد أنفسنا مضطرين لدراسة الحالة التركية، وذلك للارتباط التاريخي الذي جمع سوريا بتركيا على مدار أربعة قرون.
وفي بداية القرن الماضي، تأثرت سوريات بالحركة النسوية التركية وطريقتها، فبرزت حركة تحررية بين النخبة البرجوازية السورية، من رائداتها السيدة نازك العابد على سبيل المثال, والتي كانت حتماً كما الحركة النسوية التركية منفصلة عن الواقع الشعبي وأقرب للغرب منها للريف السوري والحارات التقليدية في المدن، إلا أنها على الأقل كانت تحمل مطالب لا يجرؤ الكثيرون على طرحها اليوم بعد قرن.
وكان من الممكن أن تستمر هذه الحركة النسوية وتتطور كما حصل في تركيا لدرجة إحداث تعديل دستوري علماني عصري منصف للمرأة, لو لم يتم إيقافها ومصادرتها من قبل حزب البعث الذي أراد التأميم حتى للمطالب النسوية, معتبراً أن الحزب والدولة المركزية هما فقط من يملكان حق التفكير.
وتمكن حزب البعث من تدجين المطالب النسوية في ما سمي بالاتحاد النسائي الذي لم يكن له دور جاد ومقنع.
فقد اكتفى الاتحاد النسائي بأن يكون مكوناً إدارياً حزبياً “للحريم البعثي”، وأقول “الحريم” لأن أعضاء حزب البعث كسائر الأحزاب الماركسية في سوريا لم ينظروا للمرأة الرفيقة على أنها رفيقة متساوية معهم بجدية، بل باتت وفق عقليتهم المتناقضة مجرد “حريم” بصورة العقلية العثمانية القديمة ذاتها, وغالباً ما كان أعضاء الحزب يمنعن بناتهن وزوجاتهن من الانخراط جدياً بالعمل العام متحججين بالمجتمع ونظرته الدونية للمرأة المسيسة في أغلب الأوساط.
نعم، الاتحاد النسائي كان مجرد فرع نسائي من أدوات القمع والحزب الواحد الديكتاتوري، حيث لم يكن ممكناً تواجد أي حركة مجتمع مدني في ظل حكم البعث.
واليوم إلى أين نمضي؟ هل يمكن أن نتوقع تغييراً حقيقياً في سوريا دون إحداث تغيير في عقليات النخب السياسية من كافة الأطراف المتصارعة على السلطة؟
الثورة السورية ورغم كل شيء أجبرت المرأة على الخروج من منطقة المألوف، ورغم ضغط رجال الدين وسيطرتهم في بعض المناطق، فرض الواقع على المرأة دوراً جديداً وحمّلها مسؤوليات جديدة، وهذا رغم تعرضها لمخاطر ومعاناة من نوع آخر.
من جهة أخرى، النزوح والهجرة لأوروبا خصوصاً أحدثت لدى المرأة السورية وعياً جديداً لحقوقها وثورة جديدة داخل الثورة، هذا بالإضافة لنعمة الإنترنت التي فتحت لها أبواب العالم المتواصل.
ما زال القادم مجهولاً، لكن من المؤكد أنه لم يعد ممكناً العودة إلى الوراء، فللنساء السوريات مطالب جديدة لم تجرؤ جدّاتهن حتى على التفكير بها.