الفاتحة

نشر الرياضي الشهير ونجم ليفربول، محمد صلاح، على حسابه الشخصي تهنئة للمسيحيين بعيد الميلاد، حيث كان يرتدي مع أطفاله زيَّ بابا نويل الشائع في أوروبا، ويقدِّم التهنئة للمسيحيين في عيد الميلاد.

ولكن هذه المبادرة اللطيفة، التي لا تعدو كونها ممارسة اجتماعية عادية جداً، جوبهت بطوفان ضار من التنمّر على حساب الرياضي الشهير، وأعقبها اتهامات لئيمة أطلقها عشرات الألوف من المتابعين بالزندقة والردّة للنجم المصري “الجاهل” الذي يحترم الأديان، ويشارك النصارى عيدهم!! ولا يعلم أن النصارى مشركون وأن الله تعالى تعبّدنا ببغضهم وكراهيتهم!!!

ولو أن هذه الاتهامات كانت في الغرف المغلقة لكانت إثارتها إساءةً للمجتمع، ولكنها للأسف عناوين مبهرجة على صفحات الـ”فيسبوك” يتابعها الملايين بنزق وجاهلية واتهام وملاعنات متبادلة.

والفتاوى التي نقلها عشرات الآلاف من المتابعين على حساب محمد صلاح لا تترك أيَّ مجال لحسن التأويل، فالقوم ينقلون عن مشايخ السلفية نصوصاً واضحة في تحريم محبّة غير المسلم ووجوب بغضه في الله!! ووجوب اليقين والاعتقاد بأنه من أهل النار وأن أيَّ ودٍّ أو محبة تبذلها لبناء جسور الإخاء والمحبة مع غير المسلمين هي انتهاك صارخ للعقيدة، وأشهرها فتوى نُشِرت بالمئات على الحساب إياه منسوبة لابن القيّم يقول فيها إنه لو ارتكب العبد كلَّ المعاصي مجتمعةً، فإنه لا ذنب أكفر ولا أشد من تهنئة النصارى بعيدهم!!

ولا يفرِّق هذا الخطاب من الحقد بين الآخر المحارب أو الآخر المسالم، فالكلُّ في طوفان الكراهية سواء وما تزال المؤسسات الدينية تعلِّم أولادنا أن من أوثق عرى الإيمان الحبُّ في الله للمسلمين والبغض في الله لغير المسلمين!!

ومن المؤلم أن البغض للآخر هنا مؤسَّسٌ على موقفه الاعتقادي فقط، وليس على أيّ ممارسة أخرى، فهو يستحق كلَّ أشكال الازدراء والتحقير والكراهية لمجرد أنه يحمل تفسيراً مختلفاً لنشوء الكون، والخريطة الدينية للبشرية.

وحتى لا نضيع في التحليل ونقدِّم أرقاماً تائهةً، فإنهم يستندون إلى نصٍّ تراثيٍّ حدد بالضبط نسبة الأفراد الذين يجب أن يكرههم المسلم عبر حديث منسوب إلى البخاري وفيه أن الرب يقول لآدم: “أخرج بعث النار من ذريتك! فيقول آدم: وما بعث النار؟ فيقول الرب: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون!!”

هل نشعر بحجم الكارثة التي نمارسها حين نعلِّم المسلمَ أن يكره من حوله 999 من كلِّ ألف إنسان؟

كيف يمكن لخطاب معزز بالأيديولوجية الحاقدة على كلِّ ما هو آخر أن يصبح اليوم هو خطابنا الرسمي؟ وأين ضاعت قيم الرحمة والمحبة التي أسّسها القرآن الكريم للعلاقة مع الآخر المختلِف؟

من المسؤول عن جعل الخطاب الديني الشعبي بهذا الهياج المستفِز؟ وأين هي وصايا الإسلام وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين؟

لا أحتاج هنا أكثر من أن أشير إلى السورة التي يقرؤها المسلِم كلَّ يوم سبع عشرة مرة، على سبيل الحتم والواجب، ولا أظنُّ أن الله تعالى اختارها إلا لنشر ثقافة الودِّ والرحمة والمحبّة.

سورة الفاتحة تتضمن أربعة أسماء للخالق، ومع أن الأسماء الحسنى للخالق تتضمن الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والرحمة والانتقام، ولكن الله خصَّ سورة الفاتحة بصفات من الرحمة فقط، الرحمن الرحيم، وكررها مرتين في ذات السورة، لتغلب روح الرحمة والمودّة سلوك المسلِم، فيما تكون آيات الغضب والانتقام خاصةً بظروف الحرب والقتال.

هذا الدين الإلهي يبدأ نصوصه بكلمة: الحمد لله ربّ العالمين ويختتمها بنصّ ربّ الناس ملك الناس إله الناس، وهو إيماء إلى القرية البشرية كلّها على اختلاف أديانها وقومياتها، وما بين المقدِّمة والخاتمة ألف نصٍّ من الإخاء والمحبّة والتواصل بين الأنبياء وهو ما يجب أن يتصل بأتباعهم على الأرض، وهي عبارات واضحة أطلقها النصّ القرآني بوضوح وشرحها الرسول الكريم في خطبة الوداع بقوله: أيها الناس، إن ربّكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، ولا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلّا بالتقوى.”

يُروى أن المنصور العباسي عندما أنجز بناء مسجده الجامع، دعا العلماء من مختلف الأقطار للمشاركة في الحفل الهائل لافتتاح المسجد، واختارَ عبد الله ابن المبارك ليكون إمام الصلاة، فهو أشهر الفقهاء انتشاراً وأكثرهم هيبةً وأوفاهم مكانةً وأكثرهم احتراماً وإجلالاً في الناس.

وفيما كان ابن المبارك في طريقه إلى المسجد، اعترض موكبه يهودي بائس يشتكي مظلمته وأن بيته كان في جوار المسجد وقد تمّت إضافة البيت للمسجد دون تعويضٍ كافٍ!!

وحين وقف ابن المبارك في المحراب والخليفة من ورائه ومشاهير الفقهاء والوزراء والعلماء بدأ صلاته بالآية: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ المسلمين!! وعلى الفور ردَّ المصلّون بتصحيح الآية بـ”ربِّ العالمين”، ولكن ابن المبارك أعادها مرتين ربّ المسلمين! حتى وقع الهرج في الصلاة وسط صخب واستغراب كبيرين، وقطع الناس الصلاة يتساءلون: “ألا يحفظ هذا الإمام سورة الفاتحة؟!” ولكنَّ ابن المبارك التفت وقال: “بل قرأتها على مذهب الخليفة ووزيره الفضل بن يونس!!” وحين تساءل الخليفة بغضبٍ عن سبب ذلك، أجاب ابن المبارك بهدوء إن أصحابك يا أمير المؤمنين ضمّوا أرضاً ليهوديٍّ إلى المسجد دون أن ينصفوه، ويبدو أنهم يرون الله ربّاً للمسلمين فقط دون سواهم!!

على الفور استدعى الخليفةُ اليهوديَّ وأنصفه أمام الناس وزاده في مطلبه… وهنا ابتسم ابن المبارك وقال: “الآن أصبحنا أهلاً أن نقرأ الآية: الحمد لله رب العالمين.”

فهل يدرك مشايخ الكراهية ماذا يصنعون؟ أم أنّهم لم يصِلوا بعد إلى سورة الفاتحة؟؟