باريس – سامي داوود – نورث برس
علّقت صحيفة الــ”نيويورك تايمز” على إحدى حفلات أم كلثوم هكذا: “شيئان لا يأتي عليهما الزمن في مصر: الأهرامات وصوت أم كلثوم.” فالمغني لا يغادر كله، بل يستمر متأرجحاً في الدندنة التي تجعله مسكوناً هناك، في الرتم المتهدج للأصوات التي تستدعيه، لتُنغِّم بالأداءِ حياة كل انفعال.
ترنّمُ النسوة الكرديات رحيل أولادهن بالمراثي، ذاك النوح المنسدلُ من حنجراتهن صوب الطريق الذي يتراءى فيه طيف أفلاذ أكبادهن ويختفي. صوتهن نسيجُ بقاءنا. فالأغنية هويتنا التي لا تمحى.
كان المغني محمد شيخو ينزع جواربه عن جلد قدميه في معتقلات البعث، وظلَّ يغني. ثمة سرٌ في حناجرنا لا يعثرون عليه. تلك الذبذبة الجذلة لأغانٍ تصدح بها فتياتنا اللواتي يضعن ضفائرهن إلى جانب البنادق وينشدنّ الضوء.
حمل الشاعر صالح حيدو آلة التسجيل وجال بها القرى والمدن الكردية في سوريا. مدوناً التأريخ المتوارث شِفاهاً لآلاف الأغاني التراثية. من الروح إلى الفم، تلك الأغنية التي تحمل الكردي فوق الفاجعة وتحفظه. فيستغرب الغزاةُ الهمجُ من جسارة أمهاتنا المنشدات أغانٍ من فيض الحب للحياة. حيث يوارى “الشهيد” الثرى بتعاهدٍ على تنغيم الوجود.
هُجِّرَ المغني محمد علي شاكر من سري كانيه/رأس العين المحتلة. ومات متحسراً على بيته الذي استوطنه الغزاة ودمروا أرشيفه الموسيقي. فدوّن على رقاقة رقمية، ثلاثمائة أغنية، كي لا تندثر بموته، ذاكرتنا الموسيقية. هو هكذا نحن. بندائه على مدينته “المحتلة”، نظّمَ للعودة إليها، سبيل العودة بالغناء. الشيمةُ النغمية للأمل، تنقذُ الكرد وترتقي بهم.
(Oy) سابقة صوتية في مستهل بعض الأغاني الكردية. ليست كلمة، بل صوت نداءٍ للألم المضموم كأصيصٍ قمحٍ أخضر. لا يعقبه أيُ يأس.
هوزان سرحد المضاءُ بالنقاء، غنَّى في فناء بيت ما مع المغني إبراهيم خياط. ظلَّ هذا الأخير الأكبر سناً يبكي لمجرد سماعه اسم كردستان. كان الغزاة يحرمون حنجرتهما من تحريك الهواء لتكوين الأصوات المنادية على أرضهما. حينما سمعتُ الأغنية ذاتها، ظننتُهما ينغمان العشق لإحدى المآثر الغرامية الكردية. في تواضع فكرتي حينذاك عن العشق. فاستيقظ في الجرح ِ شيء من الفرح. ذاك الذي يجعل الجرح أخف ومسكوناً بالأمل. مثل أغنية جوان حاجو عن حلبجة، حيث يلتبسُ الإحساس بكونها أغنية جرح.
أعاد نظام الدين أريج تنظيم الأغاني الشعبية الكردية في قوالب موسيقية أكثر تعقيداً. كعمله “صور من الحُلم”. محصناً التراث الذي كان الغزاة ينهبونه. ومؤسساً في الآن ذاته فرادة النداء في مدى الحقل الذي يختفي عبره الشباب.
فالكلمة Dayé تستطيل عنصراً ترابياً. ويغدو الصوت مسكناً. مثل النداء في أغاني كاويس آغا. حيث يجذب الصوتُ العناصرَ إلى الهوية. ليكون الصوت موضوع ذاته. فالأغاني الشعبية تشتغل كخيال راديكالي مؤسس، تمايز الشيء الذي هو دون مثال. لذلك يمكن لإيقاعاتها أن تظهر في قوالب موسيقية أكثر تنظيماً. كالتوافقات الإيقاعات التي أحدثها قادر ديلان بين الأغاني التراثية والآلات الغربية. أو التثوير الإيقاعي الذي أحدثه جوان حاجو بين الفلكلور والبوب. تجارب يقابلها في ضفة أخرى، أثر الأغنية الشعبية الكوبية على الجاز الأميركي، وأثر رقصة الهابانير الإسبانية في سيمفونية جورج بيزيه الأشهر “كارمن” 1875.
عاد الموسيقي غني ميرزو إلى مدينة كوباني بعد تدميرها من قبل البرابرة 2015. ليلتقي ببعض المغنين المكفوفين. الذين آثروا البقاء في كوباني وإعمار إنسانها بأغانيهم الشعبية، على مغادرة المدينة ليلفهم النسيان في ضوء أوروبا. داخل ما تبقى من جدران كوباني، أخذ ميرزو العود والكمنجة والطنبور، وأزاح عن المدينة ثقل الحطام. برفقة حناجر جوقة من المكفوفين، الذين يرتبطون بالمدينة عبر صوتهم وصوت سكانها. فالصوت ذاكرتهم ووجودهم. لم يندثر في كوباني صوت أهلها. الأغنية تضيء الحياة فيها.
يصلي بالغناء، الكُرديُّ الياريساني/الكاكائيُّ. الأغنية صلاته التي بها تندفع روحه صوب ربِّهِ. فالصلاة تجعل الدين “في حالة عمل” كما كان يقول ساباتيه. تمفصل الأغنية الصلاة في الياريسانية تسامت بالأغنية وبتفاعل الناس معها.
وجعلت الأغنية مكوناً أساسياً في الهوية الكردية. ومؤثراً في تخصيب الاستجابة بمحبة المدى المشرع عبر الصوتِ على الآخر. تقريباً، لا يخلوا بيت كردي في روجآفا من آلة الطنبور. حتى لو كانت من قبيل الاقتناء.
قبل عقد من الزمان. نشرت حواراً مع المغني “عُمر دزةيي” حول أثر الموسيقا في تنمية المجتمع. مستفهماً حول إمكانية وجود مجتمعات بدون موسيقا.؟ وتحدثنا حينذاك عن قيام حركة طالبان بتدمير التراث الغنائي الأفغاني الذي ينحدر بربابته من شمال شرق الهند. أجابني دزةيي أنه لحسن الحظ ظلت هناك التلاوة القرآنية، التي حفظت عبر التجويد، النغمَ في الصوت. كان التجويد عقداً مع التأرجح النغمي، الذي يعتبره أرسطو في قراءته للشعر، ميلاً طبيعياً في الإنسان.
نقيض ما تقدم، يعكف الإعلام الكردي المتلفز على تشويه هوية الأغنية الكردية. فكلُّ فتاة ترتدي فستاناً قصيراً وتستعرض قفاها مثلما يحدث في الأغاني الهابطة لهذا العصر، تغدو مغنية. حتى لو كنا لا نميز صوتها عن صوت خروج الهواء من بالونات الأطفال.
نقيض ما تقدم، يعكف الإعلام الكردي المتلفز على تشويه هوية الأغنية الكردية. فكلُّ فتاة ترتدي فستاناً قصيراً وتستعرض قفاها مثلما يحدث في الأغاني الهابطة لهذا العصر، تغدو مغنية. حتى لو كنا لا نميز صوتها عن صوت خروج الهواء من بالونات الأطفال.
لطالما أعادَ والدي الإصغاء إلى ملحمة “حمدين وشمدين” بصوت رفعت داري، سألته: ألم تشبع منها.؟ أجابني بأنها من الملاحم التي لا يُشبع منها. الحاجة إليها متجددة. آلمني أنني كطفل، لم أعي رغبته في جعلي أشاهد الحكاية بالإصغاء. ثمة في الملحمة الغنائية الكردية ثيمةٌ تستشرف المستقبل. دعوة لتجنب الحماقة السياسية والأخلاقية ذاتها. كان التكرار إلحاحاً على الفطنة. فالعلامات في التاريخِ تنتظم كنداء إلى العبرة، الدرس، الخبرة عبر المُشابهة. فالأغنية تنقذ ملكةَ الإصغاء من الفناء. ومشياً مع اعتقاد نتشوي، الموسيقا تنقذ شعباً بأكمله من الفناء.