هي أقنعة بالفعل رغم فظاظتها وغلاظتها الباديتين، لأنها تخفي وراءها قبحاً حقيقياً أشدّ تطرفاً بعدُ من المظهر الذي ترغب في أن تبدو عليه في نظر الآخرين. إلا أن القاسم المشترك بينها هو أنها جميعاً تعكس عمق أزمة الوعي السوري بالهوية، بالذات والآخر. أزمة غياب الشعور المشترك بالانتماء وبالمصير لدى السوريين.
- القناع الأول، ثقافوي/إعلامي معارض، يمثله فيصل القاسم نموذجاً، الإعلامي الاستعراضي المشهور لدى فضائية الجزيرة القطرية. عقل تهريجي يميل إلى الصراخ والزعيق الاستعراضي، انتهازي متملق. متفاصح وشعبوي في آن، مولع بالسفسطة المبتذلة، يداهن مزاج الكراهية البدائي لدى الشارع والجمهور المعارض، يستثير لديهما النوازع العرقية والمذهبية الدينية. ينتحل صوت الأغلبية العرقية والمذهبية، ويعارض النظام من هذا الموقع، لا من موقع مثل سياسي أعلى أو طموح مشترك جامع للسوريين.
هو على استعداد لتبرير جميع المتناقضات وتسويتها بطريقة فجة. يعلن بطريقة مبتذلة أن هذا النظام غير صالح لحكم البلاد، فاقد للشرعية، ليس لأنه مستبد أو فاسد، أو لأنه قتل السوريين، أو انتهك دستور البلاد … إلخ. إن ما هو أهم من كل ذلك وجوهري في غياب شرعية النظام، برأيه، هو أنه ليس عربي من صلب “العرب العاربة” أو منتمياً لدين الأغلبية العرقية ومذهبها “السنة والجماعة” إنه بعبارة ووصف فيصل قاسم “كردي بهرزي”، منحرف وشاذ، طارئ على العروبة الصافية والنقية وعلى الإسلام العربي. لقد فقد الأسد الشرعية، الآن، لأن الغطاء رفع عنه بعد أن خدع العروبة والإسلام وتحايل عليهما، هو وأبيه، لنصف قرن.
الوجه الحقيقي لفيصل قاسم وأمثاله من “المدّعين” هو خلاف ذلك وأبشع. وهو ما يضعه في مفارقة غبية مع مزاعمه السياسية. وبصرف النظر عن الصدق المعرفي لأصول آل الأسد، الذي قال به وأشاعه الأديب الكردي الراحل عزالدين مصطفى رسول وناقشته في الأمر حينه مباشرة، من أنهم ينحدرون من مدينة خانقين الكردية وينتمون إلى العقيدة اليارسانية، الفرقة الأقرب إلى المذهب الدرزي، معتقداً وطقوساً، من بقية الفرق، فإن إعادة اكتشاف هذا الأمر وإثارته على هذا النحو الاستعراضي من قبل فيصل قاسم يوقعه في مفارقات مضحكة مع انتمائه المذهبي بالذات.
إنه تقويّ للغاية، وغارق في تقويته، لا يكترث للعروبة أو الإسلام ولا يقيم لهما أيّ وزن إلّا تهريجاً واستعراضاً.
- القناع الثاني، سلطوي/ سياسي أيديولوجي، يخفي وراءه بشار الأسد ونظامه وجهه الحقيقي. هو لا يختلف في ادعائه عن فيصل القاسم إلا في الكم، ويبدو أقلّ تهريجاً منه وأشدّ كآبة وبؤساً في مزاعمه السياسية. لكنه بالمقابل يبدو أكثر هشاشة وضعفاً في تصديق مزاعمه عن إسلام سوريا وعروبتها.
وإذا كان الإعلامي، من طراز فيصل القاسم، يعلن عن مزاعمه وصراخه الأيديولوجي من على المنابر فقط، فإن بشار الأسد يسعى إلى أن يبرهن ويثبت عروبة سوريا وإسلام نظامه السياسي، على مقاسه الخاص، ليس بوساطة الدعاة ومن خلال منابر المساجد فحسب، إنما أيضاً يستعين بالدبابة وأجهزة المخابرات والجيش، والبراميل المتفجرة، وخلايا المخبرين والبعثيين إذا اقتضت الحاجة.
مفارقة سلوك هذا النظام الرئيسة تكمن في أنه طوال عقود من الاستبداد والقتل حارب خصومه السياسيين تحت عنوان “محاربة إرهاب” الجماعات الإسلامية والدفاع عن الأقليات وحمايتها في سوريا.
اليوم يُنظّر بشار الأسد ويتفلسف بطريقة فظّة وسطحية جداً عن عروبة سوريا وإسلامها أمام حشد من الأئمة المخبرين ورجال الدين المدجنين، ويلوي عنق التاريخ على هواه، كما يلوي الجلّاد عنق ضحايا معارضيه في أقبية سجونه وزنازين أفرع المخابرات لديه. كلاهما يمارس مهنته ويقوم بمهمته بإخلاص وهمة، ولكلّ منواله الخاص.
الوجه الحقيقي لبشار الأسد، أقل إثارة وتشويقاً، أشدّ قتامة، وأكثر مدعاة للاشمئزاز حين يتفاصح ويتفلسف في التاريخ وقضايا المواطنة والهوية، لأنه ببساطة الوجه الحقيقي لأكثر النظم السياسية قسوة بحق المواطنة والتعددية والتاريخ.
- القناع الثالث، شعبوي/ ميليشياوي. يسود بإفراط في أوساط النخب المعارضة. يفتقر كثيراً للأصالة الثقافية مثل بشار الأسد، سوقية بإمعان، يتعاطى انتقائياً مع التاريخ والمبادئ السياسية.
معظم هؤلاء خرجوا من عباءة النظام ومؤسساته مثل الضابط السابق أسعد الزعبي، الذي لا يتقن سوى الابتذال السياسي في الثرثرة السياسية. والقليل منهم كانوا معارضين سابقاً أمثال الكهل المتأدلج هيثم المالح.
ما يجمع هؤلاء مع فيصل القاسم هو المزايد على الدم السوري. وأكبر دليل على أن العقل السياسي والأخلاقي لهؤلاء لا يختلف عن ذهنية النظام هو أنهم لا يطمحون إلى التغيير الديمقراطي الجاد في سوريا، إنما يريدون فقط الإطاحة برأس النظام لأسباب طائفية وتبقي على ما دونه.
هو أنها لم تقم لحدّ الآن بأي نقد لأيديولوجية البعث، وتلتزم الصمت إزاء ممارسات البعث الفاشية، وصمتها هذا برهان على أنها تريد أن تنزه البعث من جرائم رأس النظام ولا تعتبر حزب البعث شريكاً له في كل ما حصل، وهذا هو الوجه الحقيقي لهم.
مفارقة أخلاقية وسياسية أخرى، معظم صقور هذه المعارضة السورية الداعية والمحرضة على ضرب النظام من طراز هذه الفئة المقنعة، كانوا في يوم ما إلى جانب نظام صدام حسين، وعملوا بكل طاقتهم لتبرير أو تبرئة استخدامه للأسلحة الكيماوية ضد الكرد في حلبجة. والأكثر تشدقاً وصراخاً بينهم وقف ضد الحملة الأمريكية لضرب العراق ولإسقاط نظام صدام حسين. هذه المفارقة ينبغي إظهارها الآن وتبيان حجم النفاق السياسي والكذب الذي ينطوي عليه سلوك هؤلاء. النظام أجرم وكان ذلك متوقعا منذ البداية. ولكن لا يمكنني بأي حال فهم ردة فعل هؤلاء ضد إجرام النظام على أنه موقف أخلاقي وإنساني منسجم، ولا يمكنني أن أثق بأنهم ضد الاستبداد بالفعل.
هيثم المالح وأسعد الزعبي، سواء بسواء، يعيدان إنتاج موقف النظام من قضية التعددية والمساواة. إن آخر فتاوى الزعبي، وسبقه في ذلك المالح في مناسبات عديدة، هو تكفير كلّ من لا يقول بعروبة سوريا وإسلام هويتها.
الخلاصة، لم يشهد التاريخ ثورة من الملائكة أو القديسين، هذه موجودة في الأساطير فقط. ولكن الثورة إن كانت خالية من القيم أو لا تملك ضوابط أخلاقية أو سياسية، ولا تساهم في إنتاج قيم إنسانية جديدة، وقيم حياة جديدة، وبالنتيجة بشر من طراز جديد تستحيل إلى كارثة، وتعيد إنتاج أشدّ أشكال البؤس تخلفاً.
إذن ما مبرر البقاء أو الانتماء لهذه المعمعة السورية التي سميت “ثورة” إذا كانت كتلة الشرّ أصبحت كلها في هذه الضفة، في برهة غرقت سفينة النظام، ولم يبق في الضفة الأخرى سوى الطاغية المعزول والمجرد في قصره؟ ألا نحتاج إلى ثورة أخرى على هذه الثورة كي تتطهر من جميع الشرور التي لحقت بها حتى أصبحت ضد مبدئها بالذات؟