ما وراء الدعوة إلى حظر حزب الشعوب في تركيا

تخبرنا تجربة العلاقة بين زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم، رجب طيب أردوغان، وزعيم حزب الحركة القومية المتطرفة، دولت باهجلي، أن الأخير لا يطلق تصريحات حساسة بشأن قضايا داخلية تركية، أو استحقاقات سياسية، أو مشاريع إشكالية في البرلمان، من دون التشاور مع الأول، إلى درجة أنه يمكن القول إن كل ما يعتمِل في قلب أردوغان يتحدث به باهجلي للإعلام.

وفي هذا الإطار، ينبغي النظر إلى تكرار دعواته إلى حظر حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، وتأكيده على عدم السماح للحزب المذكور بالعمل مرةً أخرى بحجة دعمه للإرهاب، وهي دعوة تتكامل مع كيفية تصرّف أردوغان مع مستشاره، ورفيق دربه بالحزب، بولنت آرنج، حين ردَّ بعنفٍ على دعوة الأخير للإفراج عن الزعيم السابق لحزب الشعوب الديمقراطي، صلاح الدين دميرداش، الأمر الذي دفع بآرنج إلى الاستقالة من منصبه، قبل أن يوجه أردوغان، وعلى الهواء مباشرةً، رسالة إلى القضاء بعدم الإفراج عن دميرداش مهما كان الأمر، رغم الحكم الذي أصدرته المحكمة الأوروبية العليا بهذا الخصوص.

في الواقع، منذ الفوز الكبير الذي حققه حزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية عام 2015، باتَ هذا الحزب هدفاً لنظام أردوغان، خاصةً وأنه يكاد يكون الحزب الوحيد في تركيا الذي يعارض بشكل قاطع، سياسات أردوغان التدخلّية في دول الجوار والخارج، فضلاً عن معارضته لسياساته في الداخل، وبسبب كلِّ ذلك، تشنُّ السلطات التركية حملة إقصائية شاملة ضده، إذ تقول التقارير إن أكثر من ثلاثين ألفاً من أعضاء الحزب وأنصاره باتوا في السجون والمعتقلات، كما تم رفع الحصانة عن عشرات من نوابه في البرلمان، والبعض منهم سُجِن، وكان آخرهم النائبة ليلى كوفن بعد رفع الحصانة النيابية عنها، كذلك فإن حملة عزل رؤساء البلديات المُنتَخَبين من الحزب مستمرة، حيث تقوم حكومة العدالة بتعيين موالين لها بدلاً منهم في إطار قانون الوصيّ الذي اخترعه أردوغان، وكأن الأخير يقول إن القاعدة المثلى في التعامل مع حزب الشعوب الديمقراطي هي: ما يستطيع الحزب نيله في صناديق الاقتراع، أستطيع إلغاؤه بقرار أو توجيه أو مرسوم، وذلك في تأكيد على عدم احترامه للديمقراطية وللصندوق الانتخابي.

وعليه، في ظل هذا النهج الإقصائي ضد حزب الشعوب، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو: هل سيقوم أردوغان بحظر حزب الشعوب؟ ولماذا؟ وما هي مخاطر مثل هذا القرار على التعايش التركي-الكردي مستقبلاً؟ في الواقع، رغم أن حزب الشعوب هو ثالث أكبر الأحزاب في البرلمان التركي، إلا أنه يجب عدم الاستغراب من أن يلجأ أردوغان إلى حظره، لا بسبب الاتهامات التي تُوجَّه إلى الحزب بحجة علاقته مع حزب العمال الكردستاني ودعم الإرهاب، وإنما لأسباب تتعلّق بحسابات أردوغان الانتخابية والسلطوية، وهي حسابات تتعلق بثلاث نقاط أساسية:

الأولى: إن حظر حزب الشعوب يعني بالنسبة لأردوغان قطع الطريق أمام الحزب لخوض الانتخابات المقبلة، ومنع الحزب الذي يتشكّل بدلاً من حزب الشعوب، من الحصول على النسبة المطلوبة لدخول البرلمان، وهو ما يعني توفّر كتلة انتخابية تقدَّر بنحو سبعة ملايين ناخب، يمكن أن تشكّل ثروة كبيرة لأردوغان من أجل الحفاظ على تصدّره للمشهد الانتخابي، ولا سيما في ظل تراجع شعبيته، كما تشير استطلاعات الرأي.

الثانية: وضع نهاية للدور المهم الذي يلعبه حزب الشعوب في دعم أحزاب المعارضة التركية للتخلّص من نظام أردوغان، إذ كان للحزب دور كبير في إلحاق الهزيمة بحزب العدالة والتنمية الحاكم في الانتخابات البلدية الماضية، ولا سيما في إسطنبول، حين صوَّت أنصاره لأكرم إمام أوغلو، مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض، فكانت أكبر هزيمة انتخابية تلحق بحزب أردوغان منذ تسلّمه السلطة عام 2002.  

الثالثة: وضع حد للدور الذي يلعبه الحزب في وضع القضية الكردية على سدّة المشهد السياسي التركي، إذ أن جُلَّ اهتمام الحزب ينصبُّ في كيفية الاعتراف بالهوية القومية الكردية، وذلك في إطار سياسته الداعية إلى ايجاد حل سياسي سلمي لهذه القضية، من خلال اتباع الآليات القانونية والسلمية والدستورية، وهو ما يرفضه أردوغان بشكلٍ مطلق، ويلجأ بدلاً من ذلك إلى دعم جماعات الإسلام السياسي في المناطق الكردية بتركيا، وتأسيس أحزاب تحمل عناوين كردية، لمواجهة حزب الشعوب، وتعميق الانقسامات والخلافات في الشارع الكردي وصولاً إلى الإقتتال الداخلي.

من دون شك، هذه الأهداف هي التي تقف وراء المطالبة العلنية بحظر حزب الشعوب، وما تصريحات باهجلي إلا عبارة عن مقدمات لاتخاذ مثل هذا القرار عبر القضاء. وعليه، يجب عدم الاستغراب إذا ما قام حزب باهجلي بتقديم دعوى ضد حزب الشعوب في المحاكم خلال الأيام المقبلة لحظره.

في الواقع، ما يهمُّ هنا، هو التأكيد على ثلاث قضايا أساسية:  

الأولى: سبق وأن حظرت محاكم تركية أحزاباً كردية أو مؤيدة للقضية الكردية لاتهامها بالتعامل مع حزب العمال الكردستاني، إلا أن التاريخ أثبت فشل تجربة حظر هذه الأحزب، إذ أن هذه الأحزاب سرعان ما تعود إلى المشهد السياسي عبر تأسيس أحزاب جديدة ولو بأسماء مختلفة، وغالباً ما تنجح من جديد في الدخول إلى البرلمان، سواءً بشكل مباشر أو من خلال تأسيس كتلة سياسية داخل البرلمان في حال فشلت في تجاوز العتبة المطلوبة لدخول البرلمان.

الثانية: عدم جدوى الاستمرار في سياسة إنكار الهوية القومية الكردية، وممارسة سياسة الإقصاء ضد من يمثّلها، وهو ما يؤكد ضرورة تغيير المفاهيم القومية التركية الضيقة التي تأسست عليها الدولة التركية، والتي تنكر الهويات القومية الأخرى في تركيا، من كرد وعرب وأرمن وغيرهم، وتعتبر كل من يعيش في تركيا هو تركي بالضرورة.

الثالثة: مخاطر الاستمرار في سياسة عدم إيجاد حل سياسي للقضية الكردية سلمياً والاكتفاء بالنهج الأمني، إذ أن مثل هذه السياسة تُشرِع الباب أمام تفجّر صراع تركي-كردي في الشارع، وتحوّله إلى حرب أهلية مدمِّرة.

في الواقع، رغم هذه المخاطر، إلا أنه ينبغي عدم استبعاد ذهاب أردوغان إلى حظر حزب الشعوب الديمقراطي، مع أن مثل هذا القرار سيفجّر الشارع التركي في الداخل، ولا سيما بين الأكراد والأتراك، والخاسر هنا، لن يكون حزب الشعوب فقط، بل جميع مكوّنات تركيا من أحزاب، وقوى سياسية، وتيارات فكرية، تؤمن بالديمقراطية والتعايش السلمي، وهي ما تحتاجه تركيا والمنطقة عموماً، لا ثقافة الإقصاء، وحُكمُ الرجل الواحد الذي يتمسّك به أردوغان، ويصرُّ على أنه يجب أن يكون مصدراً لكلِّ السلطات، وعلى الجميع أن يشتق منه القرار، والفعل، والموقف.