لم تدم حالة الوئام التي طبعت العلاقات بين الأطراف الكردستانية الرئيسية، والتي تزامنت مع انطلاق موجة “الربيع العربي”، حين بلغ التفاهم الكردي ذروته في النقاشات حول إمكانية دعوة الأحزاب والتيارات إلى “مؤتمر قوميّ كردستاني” يرسم بدوره شكل العلاقة التضامنية الكردية وخطوط الأمن القومي، كان ثمّة صعود قوميّ كردي على كل الاتجاهات منحت جرعة تفاؤل مهولة للشعب الكردي. في مقام آخر، أدى صعود داعش وحملاته البربرية على الكرد إلى تكوين تحالف كردستاني عابر للحدود، وعلى الجبهات كان ثمة مقاتلون من الأجزاء الكردستانية، بدا المشهد خالداً إلى حدٍّ ما، لولا أن الحسابات الكردية الخاطئة والخلافات الكردستانية اللاحقة بددت ذلك المشهد.
لا حاجة للاستفاضة في شرح المسارات التي أفضت إلى تردّي ما يمكن أن نطلق عليه صعوداً كردياً، فالأحداث الأخيرة في ضفة دجلة الشرقيّة، كردستان العراق، تشي بالمعنى المراد، حيث شارفت مرحلة “السلام المسلّح” بين العمال الكردستاني والديمقراطي الكردستاني على الانتهاء، إذ باتَ التصعيد الإعلامي يمضي في كل الاتجاهات، والاشتباكات المحدودة تنذر بتصعيد لاحق، والأهم أن نطاق التوتر اتسع ليصل إلى مرحلة تطلب فيها أربيل من الولايات المتحدة تولّي حماية حدودها من جهة سيطرة قسد، وقبل ذاك الطلب إلى واشنطن وقف تزويد قسد بالأسلحة بناءً على اتهامات بشنِّ قسد هجمات على الإقليم من الجهة السورية، بذا ينتقل التصعيد إلى حيث تقف السردية التركية أيضاً، حين طلبت أنقرة من واشنطن وقف دعم قسد واعتبرت تواجدها على الشريط الحدودي خطراً على أمن تركيا القومي، وسواها من ذرائع منسوجة بالأحقاد.
في إزاء ذلك، يفرض التعاطي بحسن النية علينا عدم المطابقة بين مطالب أربيل الحالية، ومطالب تركيا المتواصلة.
الخطر الفعلي الذي يحيق بكرد العراق متأتٍ من التحالف المقبل بين أنقرة وبغداد وطهران، ذلك أن إمكانية تخطي إقليم كردستان اقتصادياً ومن ثم سياسياً باتت مسألة واردة في حسابات البلدين، ما يعني أن تطويق الإقليم باتَ أقرب للتحقق من أيّ وقت مضى. مصادر الخطر الأخرى تتمثّل بالانقسامات الحزبية والشعبية الحادة وسوء الأوضاع الاقتصادية الذي يلقي بظلّه الثقيل على المشهد السياسي في الإقليم، في الوقت الذي تصرُّ فيه تركيا على سياسة التوسّع وتشييد النقاط والقواعد العسكرية دون إقامة أي اعتبار لغضب شعبيّ أو حزبيّ، ودائماً بذريعة ملاحقة مقاتلي العمال الكردستاني، فيما تركّز الإيديولوجية الرسمية التركية على الحقوق التاريخية للجمهورية التركية في ولاية الموصل، فاكهة الجمهورية الكمالية المحرّمة، وكذا في كركوك تحت شعار حماية التركمان وهو شعار قريب لذاك الذي تسبب في احتلال شمالي قبرص عام 1974، بكلماتٍ أخرى، مع أو من دون وجود مقاتلي العمال الكردستاني تسعى تركيا إلى تنفيذ سياساتها الإمبريالية المريضة.
على الضفة الغربية، يحيق الخطر التركي المتواصل بالإدارة الذاتية وبقسد، المعارك في محيط عين عيسى تكشف عن الرغبات الروسية المضمرة في استلام المنطقة من قسد عبر بوابة التهديدات التركية. يضاعف من مهمّة قسد الدفاعية نشاط خلايا داعش، والضباب الكثيف الذي يلفُّ الاستراتيجية الأميركية في شمال شرقي سوريا وترك قسد وحيدة في مواجهة هجمات تركيا وعملائها السوريين، أما رغبة الإقليم في ممارسة الضغط غير المبرر على قسد ومحاولة جرّها إلى حيث لا تريد وترغب فهي المشكلة التي لم تكن في الحسبان.
ما يثير الاستهجان أن الأطراف الكردستانية لم تُقِم أدنى اعتبار للحوار لتسوية خلافاتها، بل سارعت إلى الاحتكام للسلاح، والتحزّم بالتصعيد العسكري طريقاً أوحد، رغم أن الخلافات تبدو اعتيادية ومتواصلة وقد تعايشت الأطراف معها فيما سبق، ناهيك عن الاحتكام إلى الحملات الإعلامية والتعبئة الحزبية التي تحمل كل معاني النزق والانفعال والخفّة.
تبدو الأسئلة الأكثر حضوراً في هذه الغضون أقرب إلى الأسئلة البديهية حيث يمكن طرح بعضها هنا: هل تشكّل تركيا أو مليشياتها السورية أو النظام السوريّ بديلاً أفضل عن قسد حتى تطلب أربيل حراسة الولايات المتحدة حدود الإقليم من خطر قسد المزعوم؟ وهل محاولة التضييق على الديمقراطي الكردستاني في كردستان العراق سيعود بالنفع على أيّ طرف كردي، سواءً حظيت بغداد أو طهران أو أنقرة، منفردين أو معاً، بمزيدٍ من الحضور في الإقليم؟
ثمّة مصالح متصلة على ضفّتي دجلة، يدركها صنّاع القرار على الطرفين. مواجهة الخطر الوجودي الذي تمثّله سياسات تركيا والجماعات المتطرّفة هو ما ينبغي اعتباره المادة اللاصقة التي تجمع الكرد إلى بعضهم البعض، لا يعني هذا الدخول في مواجهة مع تركيا بقدر ما يعني عدم الانصياع لسياساتها أو تبرير سلوكها العدواني، واعتبار أن هناك مصالح كردية موازية للمصالح التركية وهي على بساطتها جديرة بالاحترام.
الحاجة ملحّة في هذه الأثناء لصياغة سياسات أقل حدّة لجهة وقف التصعيد، وانتهاج سياسات ترفض الاستقواء بالأنظمة الإقليمية أو تأليب طرف كرديٍ للقوى الدولية على طرف كردي آخر. يراكم الكرد خسارة المكتسبات منذ أن أُحبِط مشروع الاستقلال في كردستان العراق ومشروع وصل الشمال السوري ببعضه، هذا يعني أنه ينبغي وقف الخسارات عند هذا الحد، لا أن نصل إلى الخسارة الأعظم وهي تحطيم الواقع الكردي الهش عبر الخوض في صراع كردي مفتوح يفتقر إلى أدنى إحساس بالمسؤولية؛ صرّاع ينفِّر الحلفاء ويبرر للأنظمة الإقليمية استعمال العنف والقسوة مرةً أخرى.