عين عيسى ومعركة الحسابات المتداخلة

جملة من الأمور المهمة، سبقت التصعيد العسكري التركي ضد عين عيسى. لعلَّ أهمها:

أولاً: المعادلة الصعبة التي طرحتها روسيا، وهي: إما تسليم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) منطقة عين عيسى للنظام السوري أو أن الغزو التركي قادم لا محال، في صيغة حملت طابع الإبتزاز.                                

ثانياً: الحرب الإعلامية الكبيرة التي روّجت لها تركيا والفصائل المسلّحة التابعة لها على وقع الاستهداف التركي المتقطع لعين عيسى، والحجة التركية كانت وما زالت مكافحة “التنظيمات الإرهابية” التي تهدد الأمن القومي التركي، وهو مصطلح تستغلّه تركيا لمحاربة كل مشروع كردي أو له علاقة بالكرد.

ثالثاً: الصمت الكامل للتحالف الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة، إزاء التصعيد التركي، خلافاً لمضمون التصريحات الأميركية التي تعهدت مراراً بحماية الحلفاء الذين حاربوا معاً تنظيم داعش.

رابعاً: الخيارات الصعبة لقسد، والتي تراوحت بين الاستجابة للطلب الروسي كي لا تتكرر مأساة عفرين، أو مواجهة الغزو العسكري التركي، وتحمّل المسؤولية التاريخية عن نتيجة المعركة بغض النظر عن كسبها أو خسارتها.

خامساً: توقيت التصعيد التركي الذي تزامن مع توتر العلاقة بين حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، والاجراءات والخطوات الأمنية التي اتخذها الأخير على الحدود مع المناطق الحدودية في شرقي سوريا الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية، كل ذلك بالتزامن مع توقف الحوار الكردي-الكردي السوري، إذ بدا للمراقب أن ثمة ما يربط بين هذه الأحداث مجتمعة.

سادساً: تزامن كل ذلك مع بقاء نحو شهر على مغادرة دونالد ترامب سدة الحكم في البيت الأبيض وتسلّم جو بايدن لها، وهو ما بدا للبعض أن أردوغان ربما يريد استغلال الفرصة الأخيرة لوجود ترامب في السلطة، حيث العلاقات الشخصية القوية بين الرجلين، تلك العلاقة التي سهّلت إلى حدٍّ كبير لأردوغان قيامه بغزواته السابقة، ولا سيما احتلاله للمنطقة الممتدة بين سري كانيه (رأس العين) وتل أبيض.

في حسابات أردوغان، من التصعيد ضد عين عيسى أمور كثيرة، أهمها القضاء على الرمزية السياسية والإدارية والعسكرية التي حملتها عين عيسى لقسد، ووضع اليد على الطريق الدولي (M4) الذي يربط بين حلب وقامشلي، وهو ما يعني سيطرة وهيمنة تركيا على الطريق الحيوي لمناطق شمال سوريا وشرقها، حيث لهذا الطريق أهمية تجارية وأمنية واقتصادية وجيوسياسية تتجاوز سوريا إلى العراق، وتقطيع أوصال مناطق الإدارة الذاتية، إذ تتوسط عين عيسى الرقة ومنبج وكوباني وتل أبيض وريف حماة، فضلاً عن أن احتلال عين عيسى سيسهّل له احتلال مدينتي منبج وكوباني، كما أن احتلال عين عيسى سيشكّل ضربة كبيرة للحوار الكردي-الكردي، في ضوء الدعوات التي صدرت عن الائتلاف السوري؛ تلك الدعوات التي طالبت بوضع مناطق في شرق الفرات تحت إدارتها، من بوابة المجلس الوطني الكردي المنضوي في عضوية الائتلاف ومجلس القبائل والعشائر السورية الذي سيعقد مؤتمراً عاماً له برعاية تركية في أعزاز بعد أيام قليلة.

إذا كانت هذه هي حسابات أردوغان، فما هي حسابات روسيا؟

في الواقع، هناك جملة من الأمور الأساسية تقف وراء السياسة التي اتبعها الجانب الروسي في عين عيسى.

الأول: أن روسيا في تنافسٍ مع الولايات المتحدة على النفوذ في مناطق شرق الفرات، وفي قلب هذا التنافس عين عيسى لرمزيتها الكبيرة.

الثاني: أن دفع اللاعب التركي إلى هذه المعركة هو تكتيك روسي معقد، فمن جهة يفتح باب الصدام بين التركي والأميركي في شرق الفرات كما يعتقد الروسي، ومن جهة ثانية يفتح باب الصفقات والمقايضات مع تركيا من جديد، حيث كان لافتاً تزامن الانسحابات التركية من مناطق في أرياف حلب وإدلب وحماة مع التصعيد في عين عيسى وتل تمر، وفي النهاية تبحث روسيا عن وضع بصمتها على كامل أوراق الأزمة السورية.

مع التأكيد على وضوح المواقف الروسية والتركية من ما يجري في عين عيسى، فإن الغموض يلفُّ الموقف الأميركي، إذ أن التصعيد التركي يشكّل خرقاً واضحاً لاتفاق أردوغان-بنس قبل أكثر من عام، كما يشكّل خلافاً لتصريحات جيمس جيفري قبل فترة، حين قال إن تركيا لن تطلق عملية عسكرية جديدة في شمال شرق سوريا. فالسؤال الأساسي هنا، هو: هل ستبقى الإدارة الأميركية تلتزم الصمت إزاء الاستهداف التركي لعين عيسى؟ سؤال يتوقف عليه الكثير من المعادلات، ويطرح في الوقت نفسه أسئلة حساسة في كلِّ الاتجاهات، على نحو: هل هناك تفاهم روسي-أميركي على ما يجري في عين عيسى؟

هل هناك صفقة أميركية-تركية على غرار ما جرى في سري كانيه؟ هل الإدارة الأميركية غير قادرة على اتخاذ موقف واضح في ظل المرحلة الانتقالية التي تفصل بين عهدي ترامب وبايدن؟ وهل ما يجري هو اختبار روسي-تركي مسبق لسياسة الإدارة الأميركية المقبلة في سوريا؟ وماذا لو قررت الإدارة الأميركية التحرّك ضد تركيا في عين عيسى، خاصةً في ظل توتر العلاقات بين الجانبين بعد العقوبات الأميركية الأخيرة؟ أسئلة تأخذ طابع الافتراض، ولكنها تُطرَح بقوة في ظل الحسابات المختلفة لأطراف الأزمة السورية، وإلى أن يتضح مدى التصعيد التركي ضد عين عيسى، فإن حسابات الإدارة الذاتية تبقى الخروج من العاصفة التركية الجديدة بأقلِّ الخسائر، حفاظاً على الأهالي هناك، وعلى المكتسبات التي تحققت، والتطلّع لتحويلها إلى إنجازات سياسية في المرحلة المقبلة.